في حق اللبنانية بمنح جنسيتها لأولادها
غدير العلايلي
ان حق الوالدَين اللبنانيين بمنح جنسيتهما لأولادهما القاصرين ليس مجال التمييز الوحيد في ما بين الجنسَين في القوانين اللبنانية. لكنه من أبرز القضايا الحقوقية في هذا السياق باعتبارها، بالدرجة الأولى، مسألة هوية وانتماء وطنيَّين بامتياز.
ينص المقطع الأخير من المادة 4 من القرار رقم 15 S. تاريخ 19 كانون الثاني 1925 (قانون الجنسية اللبنانية)، بصيغة النص باللغة العربية الواجب التطبيق دون نص اللغة الفرنسية (المختلف عنه) لأنه وحده المنشور في الجريدة الرسمية، على ما يلي: "(...) وكذلك الأولاد القاصرون لأب اتخذ التابعية اللبنانية أو لأم اتخذت هذه التابعية وبقيت حية بعد وفاة الأب فإنهم يصيرون لبنانيين الا اذا كانوا في السنة التي تلي بلوغهم الرشد يرفضون هذه التابعية".
ينتج هذا النص عن نظرة ذكورية كانت معتمدة في فرنسا المنتدبة منذ قرن ثم تخطّتها الأخيرة، لكن بقيت للأسف سائدة في الجمهورية اللبنانية حتى اليوم. ومفادها أنه بما أن الرجل هو رأس العائلة qualité de chef de famille، فعندما يتوفّى الرجل تصبح المرأة هي رأس العائلة، لذا جاء نص المادة القانونية على الشكل أعلاه. لكن، عند تطبيق النص المذكور ساد لغط حول نطاق النساء وأولادهن المشمولين فيه. إن النقطتين القانونيتين الرئيستين اللتين تطرحان في هذا السياق هما من جهة أولى، مدى تكريس حق المرأة اللبنانية بإعطاء جنسيتها لأولادها القاصرين في آخِر نص المادة الرابعة السالف ذكرها، ومن جهة ثانية، مدى جواز اجتهاد القاضي إزاء هذا النص.
يتطرّق الكتاب المشار اليه أدناه(*) الى كل من هاتين المسألتين، وسنكتفي هنا أولاً باستعراض التوصيات والأهداف التي ينشدها، وثانياً بشرح الاستخراجات التي أتى بها والحيثيّات القانونية ذات الصلة.
أولاً: التوصيات / الأهداف المنشودة
إن غاية قانون الجنسية، لا سيما في النص القانوني أعلاه، هي توحيد جنسية العائلة باعتبارها رمز وحدة الأسرة وانصهارها في بوتقة وطنية واحدة وضمان إقامتها واستقرار أعضائها جميعاً في البلد ذاته دون عراقيل، كما المحافظة على مصلحة الأولاد لا سيما القاصرين وتعزيز علاقاتهم بوطن والدتهم الذي ينتمون اليه فعلاً. ويكمن جوهر دور الاجتهاد القضائي في هذا الصدد في حماية العائلة والفئات المهمّشة والحؤول دون التمييز ضد النساء وبالتالي أولادهنّ، لا سيما في ظلّ امتناع المشترع اللبناني عن لعب دوره في تعديل القوانين ومراجعتها لمواكبة تطوّر المجتمع.
بناء عليه، يقتضي رفع تحفّظات الجمهورية اللبنانية عن اتفاقية مناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة (الصادرة عن الأمم المتحدة بتاريخ 18/12/1979) لا سيما بشأن المادة 9 فقرة 2 المتعلقة بحق منح الجنسية للأولاد. كما يقتضي مراجعة قانون الجنسية اللبنانية ككل لإزالة أي غموض او تمييز وجعله منطبقاً مع الدستور ومع التزامات لبنان الدولية لا سيما لجهة مبدأ المساواة. وفي انتظار تحقيق ما سلف بيانه، يقتضي اعتماد تفسير واسع ومنصف من قبل الاجتهاد القضائي للنصوص القانونية النافذة حالياً يكون من شأنه تحقيق المساواة بين الجنسين قدر المستطاع.
والغاية من كل ما تقدّم هو تكريس الحسّ الوطني والانتماء الى الهوية اللبنانية لدى المرأة وعائلتها دون استثناء اي جنسية (بما يشمل الفلسطينيين والعراقيين الذين يجري الحديث أحياناً عن استثنائهم من مشاريع تعديل القانون)، وذلك عملاً بالاتفاقية الدولية لإزالة جميع أشكال التمييز العنصري (نيويورك، 21/12/1965). وهذا ما يعزّز المواطنة إنفاذاً للمبدأ الدستوري المتعلّق بالمساواة بين المواطنين اللبنانيين.
ثانياً: الاستنتاجات والحيثيات القانونية
من تحليل معظم القرارات القضائية الصادرة منذ صدور قانون الجنسية عام 1925 حتى عام 2011 ضمناً، يستنتج التبدّل الإجتهاديّ التالي: لغاية عامَي 1980-1983، كان الحلّ المبدئي المعتمد من محكمة التمييز اللبنانية يقضي بإعطاء النساء اللبنانيات الحق بمنح جنسيتهن لأولادهن القاصرين ضمن الحدود الموسّعة لما يمكن أن يفسّر عليه نص المقطع الأخير من المادة 4. إلا أن الحلّ المبدئي المعتمد من محكمة التمييز بعد عامَي 1980-1983 أصبح يعتمد تفسيراً حرفياً ضيّقاً جداً للنص مما يحدّ كثيراً من الحالات التي يجوز فيها للنساء إعطاء الجنسية لأولادهنّ القاصرين. ويندرج قرار القاضي جون القزي الصادر عام 2009 بين قرارات ثلاثة صدرت بعد هذا التبدّل الإجتهادي (القراران الآخران صدرا عام 1990 وعام 1995) وحاولَت اعادة العمل بالحلّ المبدئي السائد قبل عامَي 1980-1983.
ومن خلال دراسة الفقه والاجتهاد، نستخرج ثلاثة مستويات للاجتهاد ولتفسير النص القانوني موضوع المقال الحاضر (التفسير الأفقي، والتفسير العمودي، والتفسير اللغوي والقاعديّ)، نقترح الأخذ بها بغية تسهيل عمل القضاء والفقه، ولا مجال لتفصيلها في هذا المقال. نكتفي هنا بالإشارة الى أننا نؤيّد تفسير النص تفسيراً واسعاً تكثر معه حالات منح المرأة حقها بإعطاء الجنسية لأولادها القاصرين على صعيد كل من هذه المستويات التقنيّة، ولقد أثبتت الدراسة المعدّة في الكتاب المذكور أدناه صحّة هذا الرأي من الناحية القانونية.
ختاماً، لا يجوز أن نقبل بأن تُحرَم المرأة اللبنانية من حق اعطاء جنسيتها لأولادها، سيّما أنه يتم بين الحين والآخر تجنيس الأجانب بالجنسية اللبنانية مع كل علامات الاستفهام الكبيرة والخطيرة المطروحة سابقاً واخيراً بهذا الصدد. في قرار للغرفة الثالثة لمحكمة التمييز تاريخ 14-7-1980 بخصوص موضوع هذا المقال، ورد ان "المبدأ العام الذي اعتمده (المشترع اللبناني) في قوانين الجنسية هو انها مبنية على رابطة الدم وليس على رابطة الرحم"! السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو التالي: الأم التي تحبل بالولد 9 أشهر والتي تولده بنفسها، ألا تربطها بولدها النابع من شحمها ودمها رابطة دم بيولوجية؟! فلنعمل جميعنا على دعم مطالب المجتمع المدني اللبناني الآيلة الى تغيير المفاهيم والقوانين والاجتهادات الذكورية والتمييزية المجحفة العائدة الى زمن آخر والى قرن ولّى!
محامٍ بالاستئناف
No comments:
Post a Comment