الخميس 31 كانون الثاني 2008 - السنة 74 - العدد 23253
مدنيات اجتماعيات
الكتاب
"القاتل إن حكى" لنصري الصايغ: مواربة الأبواب على الحرب
ما الذي دفع بنصري الصايغ الى نبش القبور الجماعية للحرب اللبنانية بكل ما سبقها من تعذيب وسحل وقتل، وما اعقبها من ذكرى المفقودين والمخطوفين والمعتقلين؟ هو الذي سبق ان كتب في صحيفة "السفير" مقالاً بعنوان: "رجاء لا تفتحوا ابواب الذاكرة... رجاء لا تفتحوا ابواب الجحيم"، فلماذا فتحها على مصاريعها؟ لعله تبيّن له ان المرض العضال الذي اصاب المجموعات اللبنانية لا يشفيه النسيان، بل ربما ينفع في علاجه التذكر.
لماذا علينا التذكر؟
لأن هذه الجرائم ارتكبت علانية، جهاراً ونهاراً، بوقاحة ومن دون خوف من عقاب، من دون رادع ديني، بل بتحليل ديني، لذلك تصرف "المجرمون القتلة كأنهم مرسلون، او كأنهم ورثة رسالة انسانية، او كأنهم رسل حياة جديدة!"، وما زالوا على هذا المنوال يتصرفون. وهنا تكمن المشكلة التي تجب معالجتها، وليس تذكرها فحسب. فحين يفترض القاتل نفسه مرسلاً من الله للقيام بفعل القتل، متجاوزاً، ومتناسياً، ان الله لم يترك مجالاً في هذا الفعل للتقدير او التخمين او الافتراض او الاجتهاد. لقد كان جازماً في المسيحية في اول الوصايا: "لا تقتل". وفي الاسلام ايضاً: "من قتل نفساً بغير ذنب، فكأنه قتل الناس جميعاً".
فمن اين جاء تحليل القتل؟ من رجال دين او اشباههم، يحللون ويحرّمون "على ذوقهم"، في القتل، وهو ما لا يجوز فيه تحليل او تفسير او اجتهاد. ان رجال الدين هؤلاء مرضى، مصابون بانفصام في الشخصية، وهم كثر في عصرنا الحاضر.
وفي تداعيات ذهنية تمر مشاهد انفجار السيارات المفخخة والقناص، الذي عدنا نراه على السطوح مكشوفاً وليس في النوافذ "والطوق" كما يفترض، والذي كما يقول الصايغ "كان لا يهنأ بنوم الا بعد قتل احد ما، لا يعرفه". ولعل الصورة الاكثر مأسوية في كتاب المآسي هذا، مشهد بيع الجثث في حرب الاشقاء في مخيمات الشمال، وتلك الام التي لم تستطع شراء جثة طفلتها!
لماذا لم يعتذروا؟
يتخذ نصري الصايغ في كتابه "القاتل إن حكى" صفة الادعاء العام على كل من يظهره الرأي العام قاتلاً او مشاركاً او مخططاً في جرائم القتل والتهجير والابادة، والايام السود الكثيرة التي عبرت بلبنان خلال اعوام الحرب 1975 – 1990. يتلو شهادة عن القتلة ويعتذر من ذوي المقتولين، مستنداً الى شهادات مكتوبة ومنشورة وموثقة لجوزف سعادة منفّذ "السبت الاسود" في "انا الضحية والجلاد انا"، واسعد الشفتري المسؤول الامني الاسبق في "القوات اللبنانية" ورجينا صفير في كتاب "J,ai déposé les armes"، فضلاً عما جمعته بيان نويهض الحوت من شهادات ممن تبقى من ذوي الضحايا في صبرا وشاتيلا، اضافة الى ما ورد في كتابي روبرت فيسك "لعنة وطن" و"لبنان: بلد شهيد".
كثر من المقاتلين وقادتهم اجروا نقداً للمرحلة ولممارساتهم، لكن اسعد الشفتري وحده اعلن اعتذاره، حتى ان قادة الميليشيات من دون استثناء استنكفوا عن الاعتذار، حتى امتنعوا عن اظهار الندم، ورغم تردادهم انهم متمسكون بالسلم الاهلي فإن خطاباتهم وتصرفاتهم توحي انهم لن يتورعوا عن خوض غمار الحرب مجدداً اذا تأمنت مسلتزماتها.
واذا كان الذين سبق ذكرهم ادلوا بشهاداتهم فاعترفوا او ندموا وهم من المسيحيين، فهذا لا يعني ان الطرف المقابل الذي كان يقاتل تحت اسم "الحركة الوطنية والاسلامية" قد حافظ على مفاهيم هاتين الحالين، بل على العكس فقد ارتكب من القتل والمجازر بقدر هؤلاء واكثر وذيول ما ارتكبه ما زالت تعالج حتى اليوم، وإن تلطّى بالقضية الفلسطينية او العروبة او الاصلاح السياسي.
لماذا لم يعتذر بعد احد من القتلة او من القادة المسؤولين عنهم ان لم يكونوا هم انفسهم قتلة؟ ربما لانهم مستعدون للشروع في القتل مجدداً اذا سنحت لهم الظروف، واذا تلقوا الاوامر من الخارج. فقد اعتدنا على ان القادة عندنا في مجملهم يعملون على طريقة الروبوت، عند رب العمل، يأتمرون بأوامره وينفذون رغباته حتى لو افتعل بهم!
ان القتلة ما زالوا على قيد الحياة تشهد عليهم نشاطاتهم في كل المجالات، يحاضرون في العفة! اما ضحاياهم فلا يتذكرونهم، فقد قطعوا حبل السرة مع ذلك الماضي في ما يتعلق بضحاياهم، اما انجازاتهم التي يعدونها "وطنية" فإنهم يتبجحون بها، في الاعتراف شفاء للقتلة من جرح داخلهم وان كان ضميرهم لا يعذبهم، وفي الاعتذار بلسم لحقد دفين يجرح قلوب اهالي الضحايا.
يحكي الصايغ حكايا الجنون اللبناني وقرف الحرب، يجمع حوادث القتل فردياً وجماعياً من غابات الاحزاب اللبنانية والفصائل الفلسطينية فضلاً عن اسرائيل وسوريا، يروي اخباراً تقشعر لها الابدان وتتقزز النفس عما فعلته الميليشيات باعدائها المفترضين وبالرفاق احياناً. فما رأي اهالي الضحايا في تفاهم قادة الميليشيات وتعانقهم.
لكن لا يكفي ان يجتمعوا في ساحة الشهداء في وسط بيروت على دماء ضحايانا وارواحهم، كي ينالوا صك الغفران. ومن قال انهم تابوا؟ كما يبدو لم يتوبوا وهم على استعداد لاعادة الولوغ في دمائنا، إن لم يبدأوا فعلاً.
تصفية الرفاق كالأعداء !
لا ضرورة لمعاودة رواية الجرائم التي وردت في الكتاب فقد رسمها بألوان فاقعة، صور القتل المجاني، واظهرها بالصوت والصورة، انها فظاعات اللبنانيين، بعضهم لا كلهم، كذلك الفلسطينيين والسوريين، ثمة من فعل وثمة من قبل بالفعل ورضى عنه، وان لم يباشره، وهذه هي الأكثرية اذاً لا ضرورة لاعادة مشاهد العنف والقتل والتصفية وهي الأكثر عنفاً ودموية ومأساة وانتقاماً بكل انواعها واشكالها والاغتصاب فبمجرد القراءة عنها تقشعر الأبدان، فكيف حال من شاهدوها عياناً؟ او بالأحرى ما هو شعور من مارسوها؟ ولماذا مارسوها؟. يقول جوزف سعادة: "يومذاك عدنا لا نشبه البشر في شيء، يومذاك اين منا، ومن توحشنا، الذئاب الكواسر؟".
فلتقل الناس مع الصايغ لهؤلاء: "اعترفوا بالدم واغتسلوا بالتقريع... تسولوا منا التسامح... ولن ننسى".
وقد تكون شهادة رجينا صفير القواتية بعد توبتها اصدق تعبيراً عما ستؤول اليه الاحوال حين يتحول الرفاق اعداءً يمارسون عليهم ممارسات الاعداء، فتروي كيف "صفّت" "قوات جعجع" "قوات حبيقة" بعد معركة الكرنتينا وقد صدمها الاسلوب الذي كان المقاتلون يروون فيه كيفية التصفية و"الفرح والسطوة والعنجهية التي كان يتسم بها هؤلاء عندما يتحدثون عن رفاق سلاحهم بالأمس، وقالت: "غرقت في رعب عندما عرفت ان عدداً من فريق حبيقة قد القي به في البحر بعد صبّ الباطون على قدميه".
حتى المرجع الديني الذي زارته متوسلة التدخل، لم يحرك ساكناً، فاستسلمت لمشيئة الله، رغم انها كانت تعتقد "ان الله الكلي القدرة الموجود في كل مكان ما عاد بيننا... اما جهنم فلا اخشاها بعد الآن، اذ اصبحت امام عيني".
المجازر عبر التاريخ
في فصل "لسنا وحدنا القتلة!" معلومات ارشيفية احصائية عن المجازر عبر التاريخ حللها الصايغ فتبين ان التاريخ منذ فجره ترتكب فيه المجازر وغالباً بتغطية دينية وثنية او الهية. والمجازر بين اتباع الله الواحد لا تعد ولا تحصى، باسمه ترتكب ومن اجله، وما زالت، فهل يحتاج الله الى قرابين، كالآلهة الوثنيين؟ ويعرض الصايغ ابرز المجازر عبر التاريخ: مذابح الاسكندر المقدوني في صور وفينيقيا وغزة. وفي التوراة نصوص مرعبة عن أوامر الهية بالابادة والقتل والذبح والاحراق، ومنها ان يشوع اليهودي قضى على اريحا واباد اهلها، والجزار الاول في التاريخ جنكيز خان المغولي الذي ارتكب مجازر اباد فيها الملايين، وهو صاحب اكبر مقبرة جماعية ضمت 600 الف من "التانغيت"، اذ اباد شعباً بكامله، فضلاً عن قتل 500 الف في الصين حيث وضع الاحياء مع الجثث ليموتوا لاحقاً حيث هم.
اما في عصرنا الحالي فتذكر ابادة "الخمير الحمر" في كمبوديا المثقفين والمتعلمين وازالة قرى للاقليات المسلمة والمسيحية عن الخريطة – كما حدث للمسيحيين في الجبل وشرق صيدا وللفلسطينيين في تل الزعتر وجسر الباشا وصبرا وشاتيلا – وبلغ ضحايا الخمير الحمر نحو مليونين.
كذلك ابادت قبيلة الهوتو قبيلة التوتسD في راوندا، وتعتبر هذه المذبحة التي وقع ضحيتها نحو نصف مليون انسان، الرابعة في القرن العشرين بعد مذبحة الاتراك للأرمن والنازيين لليهود في اوروبا و"الخمير الحمر" لشعبهم في كمبوديا.
ويلاحظ الصايغ انه بين اكثر من 120 حرباً في القرن العشرين، لا حرب بين دولتين ديموقراطيتين!.
ولا ننسى حرب الابادة التي مارسها الابيض على الهنود الحمر في اميركا الشمالية والسكان الاصليين في اميركا الجنوبية وعلى السود في افريقيا... "وكان افضل الفرو (لاوروبا) واغلاه ثمناً فروة رؤوس السود في افريقيا"!. حتى يمكن القول ان ابداعات الانسان الاجرامية فاقت اختراعاته.
الأبواب مواربة على قتل جديد
هل يعتقد الصايغ ان هذا الكتاب قد يكون عبرة يعتبر بها القارئ؟ هل يفترض ان الجلوس الى الطاولة او التمدد في السرير وقراءة الكتاب كرواية مسليّة، نعزو الوصف والسرد فيها الى سياق ما قرأناه سابقاً في روايات عالمية عن الحروب، ممكن ان يطرح علامات استفهام عند القارئ فتنفتح امامه الاجابات، على افق الوعظ والارشاد والاعتبار؟
وهل من ادلى باعترافاته واعتذر عذبه ضميره ام لا؟ وهل بعد الاعتراف ما زال يعذبه؟ والذين لم يعترفوا او لم يعتذروا هل لديهم ضمير كي يعذبهم؟ وهل بعض من لم يعترف او يعتذر ولا يعذبه ضميره، يكون قادراً على ممارسة مهنة القتل مجدداً؟
اذا كان الصمت لا يمحو المجازر فهل التكلم عليها يمحوها؟ ام ينسي؟ يقال ان الزمن ينسي، هل ينسي القتلة جرائمهم؟ هل ينسي الناس ضحاياهم؟ هل ينسى القاتل ضحاياه؟ ام هل ينسى اهل الضحايا قاتلها؟
لماذا يلاحق مجلس الامن المجازر الجماعية التي ارتكبت في رواندا وصربيا وكوسوفو وغيرها، ولا تلاحق المجازر الجماعية التي ارتكبت في لبنان؟ مع تقديرنا لاهتمام المجتمع الدولي باغتيال الرئيس رفيق الحريري والاغتيالات التي تلته، الا تستحق المجازر الجماعية التي ارتكبت في لبنان محاكمة دولية ايضاً؟ بلى. تستحق.
واختم بقول الصايغ: "ابقاء الابواب موصدة امام الشهادات والامتناع عن الادلاء بالذنوب والخطايا والفظائع، هو شرط لابقاء الدم على الايدي كي ترتوي من ثأر قادم".
"القاتل ان حكى"، 285 صفحة، دار رياض الريس للكتب والنشر.
جوزف باسيل
No comments:
Post a Comment