شهادات ضحايا التعذيب على أيدي القوى الأمنية تتكرّر في العالم العربي. منذ العام 2011، حجزت حكايات المُعذَّبين وأخبار التفنّن في تعذيبهم مساحة واسعة في الإعلام وفي تقارير المنظمات الإنسانية، بعدما كانت تبدو سابقاً كمشاهد روائيّة أكثر منها واقعيّة.
سُجّلت شهادات كثيرة عن سراديب التعذيب في مصر وسوريا والعراق وغيرها من الدول العربيّة المشتعلة، بينما بقي حضور لبنان "خجولاً" في نادي "التعذيب على يد القوى الأمنية".
بدا وكأن التعذيب شأن خاص، بينما أسهمت محدودية الحالات التي تمّ توثيقها (مقارنة بدول أخرى) في دفع الخطاب السياسي باتجاه الإصرار على أنه يتبنّى "احترام لبنان لحقوق الإنسان".
مع ذلك، كان ثمة تقارير كشفتها المنظمات الإنسانية، الدوليّة والمحليّة، وفيديوهات تمّ تسريبها، أصرّت على انتهاك لبنان لحقوق الإنسان والقانون الدولي، كان من بينها تقرير الأمم المتحدة قبل عامين وفيه أن "التعذيب في لبنان هو ممارسة واسعة الانتشار ويتمّ استخدامها بشكل روتيني".
وفي هذا الإطار، يأتي تقرير "هيومن رايتس ووتش" Human Rights Watch الأخير تحت عنوان "هذا ليس مكاننا: محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكريّة في لبنان".
التفنّن في التعذيب
يتزامن نشر التقرير مع اقتراب مثول 14 شخصاً أمام المحكمة العسكرية، بتهم تتعلّق بمشاركتهم في تظاهرات العام 2015 ضد الفساد والحكومة خلال أزمة النفايات.
لكن التقرير، الذي يفنّد عمل المحكمة العسكرية وآليات المثول أمامها وقضية هؤلاء المتظاهرين الذين قد يصل حكمهم إلى ثلاث سنوات، لا يقتصر على ذلك بل يراجع حالات أشخاص مثلوا أمام محاكم عسكرية وبعضهم تعرّض للتعذيب خلال التحقيق في وزارة الدفاع.
يوثّق التقرير شهادات أناس تمّ استجوابهم من دون محام، تعرّضوا للضرب والتعذيب النفسي والصعق بالكهرباء والتعليق من المعصمين واليدين مقيّدتين للخلف، وأوامر بالتوقيع على إفادات وهم معصوبي الأعين. وفي بعض الحالات، كان الاعتراف بالإكراه الدليل الوحيد المقدّم للمحكمة.
أقوال جاهزة
شاركغردلا تنخدعوا كثيراً بلبنان... فقصص التعذيب فيه لا تقلّ فظاعة عن ما نسمعه في دول عربية كثيرة أخرى
شاركغرد355 طفلاً حوكموا أمام محاكم عسكرية في العام 2016 في لبنان... وقصص تعذيب لا تصدق
"كانت المرة الأولى التي أعلم فيها أنه يمكن معاملتي بهذا الشكل... كنا نتظاهر، ماذا فعلنا نحن؟ لم أكن أدرك أنني قد أنتهي للمثول أمام المحكمة العسكريّة… المعاملة هناك بشعة جداً. لست في السلك العسكري، ولا أرتدي زياً عسكرياً، لا يمكنكم معاملتي كجنديّ في الخدمة... أنا خائفة مما سيحصل لنا في الأيام التي سنمثل فيها أمام المحكمة هناك" تقول تمارا، واحدة من 14 شخصاً سيمثلون أمام المحكمة العسكرية في نهاية الشهر الحالي.
"صرخت من تحت الأرض عندما رأيته... لم أصدّق أن هذا ابني. لا يمكنني وصف المشهد. كان وجهه ملطخاً بالدم ومتورماً ومزرقاً". أم تروي عن تعذيب ابنها، في سياق الكلام عن ممارسة تعذيب الأطفال في التحقيقات كذلك. ووفقا لـ"الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان"، حوكم 355 طفلاً أمام محاكم عسكرية في العام 2016.
"تعرّضت للتعذيب في وزارة الدفاع، ثم جرى اغتصابي على يد عناصر من الاستخبارات في مركز الاحتجاز في الريحانية في العام 2013. لقد تم احتجازي بسبب ما كتبته على فيسبوك دعماً للشيخ أحمد الأسير في الفترة التي جرت فيها الاشتباكات بين عناصره والجيش اللبناني. وبعد اعتقالي في سبتمبر، ضغط المحققون في وزارة الدفاع علي من أجل سحب شكاوى الاغتصاب التي كان الإعلام المحلي قد تابعها" تقول ليال كياجة التي أُدينت بـ"إهانة المؤسسة العسكرية" وحُكم عليها بالمدة التي كانت قد قضتها.
"قيّد المحققون معصمي خلف ظهري ورفعوني في الهواء، لم أستطع التنفّس... أُغمي عليّ. في اليوم التالي نقلت إلى وزارة الدفاع في اليرزة، وعندما أخبرتهم بما جرى من تعذيب مع جهاز المخابرات في قوى الأمن الداخلي هددوني بالقول "إذا لم تتكلّم، سنعرف كيف نجعلك تتكلّم. لدينا "البلنكو" و"الفروج" (وسائل تعذيب) والكهرباء، كل ما تريده، سنفعله بك. ستتكلّم أو سنرسلك إلى التعذيب" يقول رويد، شاب لبناني في منتصف العشرينات، جرى اعتقاله في ربيع العام 2014، بسبب الاشتباه بتورطه في اشتباكات طرابلس. اعترف رويد بـ"كل شيء" خوفاً من التعذيب، وقد خرج من السجن لاحقاً في العام 2015.
"ضربني المحققون وأجبروني على التوقيع على اعترافاتي في وزارة الدفاع في اليرزة، بعدما اعتقلني الجيش من المنزل في العام 2014. خلال التحقيق صفعني المحققون ولكموني على وجهي ثم ضربوني بالحائط. تركوني واقفاً أمام حائط الغرفة في غرفة التحقيق لخمس ساعات حتى فقدت الوعي. ضربوني على رقبتي وظهري ورجلي، وكل جسدي تحوّل لونه إلى الأبيض والأسود. في اليوم التالي، أجبروني على التوقيع على ورقة أجهل ما تحتويه" يقول نجيب، شاب لبناني، سيق إلى المحكمة العسكرية وواجه تهمة الاتجار بالسلاح، وكان الإثبات الوحيد أمام المحكمة هو إفادته التي وقعها قسراً.
وثّق تقرير "هيومن رايتس ووتش" شهادات بين بيروت وطرابلس والبقاع. وفيها كذلك قصة الشاب السوري هيثم الذي اعتقل قبل عامين وهو في عمر الـ15. مثل أمام القاضي في المحكمة بعدما مضى على "اعترافه" وهو معصوب العينين، فعرض عليه آثار التعذيب على جسده لكن القاضي لم يعلّق على الموضوع.
وأيضاً قصة خالد، صاحب الـ16 عاماً، الذي قال محاميه إنه استُجوب لثلاثة أيام وهو معصوب العينين، وتلقى لكمات على وجهه وضُرب بعصا على ظهره، كما تعرّض للتهديد والإهانة. وفي اليوم الرابع تمّ تحويله إلى وزارة الدفاع. هناك ربط المحققون معصميه خلف ظهره وضربوه. ربطوا أسلاك معدنيّة في أعضائه التناسليّة وصعقوه بالكهرباء ثم سكبوا على وجهه الماء لإيقاظه، بينما كانوا ينتزعون بالقوة اعترافه بالارتباط بالإرهاب وزرع قنبلة والاعتداء على نقاط للجيش والانتماء إلى منظمة إرهابيّة.
"لم يكن خالد يعلم من أين تأتيه الضربات"، بحسب محاميه الذي قال "لقد اعترف بكل شيء، اعترف حتى بصلب المسيح، وبقتل رئيس الوزراء".
القاضي ضابط
"صلاحيات المحكمة العسكريّة فضفاضة للغاية"، يعلّق مدير التواصل والمرافعة في المنظمة أحمد بن شمسي قائلاً لرصيف22، ويربط ذلك بواقع أن "أي نزاع قد يحصل بين مدني وشخص مرتبط بجهاز أمني قد يودي بالأول إلى المحكمة العسكريّة". يستعيد بن شمسي كلام التقرير عن الولاية القضائية الواسعة التي تحظى بها المحكمة على المدنيين. ويشمل ذلك بحسب التقرير قضايا التجسس، أو الخيانة، أو التهرب من الخدمة العسكرية، أو الاتصال غير المشروع مع العدو (إسرائيل)، أو حيازة الأسلحة، الجرائم التي تضر بمصلحة الجيش أو قوى الأمن أو الأمن العام، وكذلك أي نزاع بين مدنيين من جهة وأفراد الجيش أو الأمن أو الموظفين المدنيين في هذه الأجهزة من جهة أخرى.
في كل مرة يتم فيها تسليط الضوء على انتهاكات العسكر لحقوق الإنسان ووسائل التعذيب التي يمارسونها، يأتي من يقول بضرورة احترام المؤسسة الأمنيّة في فترات الأزمة وخطر الإرهاب المتزايد. يجيب بن شمسي "نحن نحترم المؤسسة العسكرية، ونقدر دورها الأساسي في ضمان استقرار وأمن لبنان في ظل مخاطر جهوية متزايدة. لكن السياق، كيف ما كان، لا يبرّر انتهاكات حقوق الإنسان... التي بالمناسبة لا تساعد محاربة تلك المخاطر بأي شكل كان".
"تعرضت للتعذيب في وزارة الدفاع، ثم جرى اغتصابي على يد عناصر من الاستخبارات في مركز الاحتجاز في الريحانية”
شاركغرد
يستحضر المسؤول في "هيومن رايتس ووتش" المفهوم الشائع بأن تجاهل حقوق المتهمين سبيل للحفاظ على هيبة الدولة وقوتها، ليتساءل "ما الغاية من التحقيق، أهي الوصول إلى الحقيقة أم انتهاك الشخص ليعترف بما يريد المحقق سماعه؟"، مفسّراً أن التعذيب لا يعطي المحققين معطيات صائبة دائماً لتساعدهم في ضبط الأمن، بل يدفع بالمتهمين لقول أي شيء تهرباً من وسائل التعذيب المعتمدة، وبذلك يضيّع وقتاً وموارد ثمينة قد تكون قوات الأمن استعملتها بنجاعة أكثر لو احترمت أصلاً سلامة الإجراءات.
المشكلة الأخرى تتمثل في بنية المحاكم العسكرية التي تقوّض الحق في محاكمة عادلة، بما في ذلك الحق في المحاكمة أمام محكمة مختصة ومستقلة ومحايدة، والحق في محاكمة علنية. ب
حسب التقرير، يُعيّن وزير الدفاع القضاة، وغالبيتهم ضباط عسكريون لا يشترط عليهم الحصول على شهادة أو تدريب في القانون. العسكريون العاملون كقضاة تابعون لوزير الدفاع، بينما لا تستطيع المنظمات الحقوقية والصحفيون مراقبة المحاكمات دون موافقة سابقة من القاضي الذي يرأس الجلسة.
وهنا يقول بن شمسي "للإنصاف، أبلَغَنا الجيش أن معظم القضاة حظوا بتدريب قانوني أو شهادة في القانون"، مع ذلك يتخوّف من "التراتبية" في المؤسسة العسكرية التي قد تجعل القاضي/ الضابط متأثراً بأوامر عليا.
وفي الجانب التشريعي، أقر مجلس النواب اللبناني قانوناً لإنشاء "المعهد الوطني لحقوق الإنسان"، والذي سيضم لجنة للتحقيق في استخدام التعذيب وسوء المعاملة في أماكن الاحتجاز، لكن لم يسنّ لبنان حتى الآن تشريعات تجرم جميع أشكال التعذيب، كما هو مطلوب بموجب "اتفاقية مناهضة التعذيب".
Source & Link : Raseef22
No comments:
Post a Comment