المحكمة العسكرية تنتهك حقوق الإنسان
منذ أيام، أصدر قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا، قراره الظني في حق 30 متظاهراً شاركوا في التظاهرات المطلبية الأخيرة، فيما لا تزال الشكاوى المقدّمة ضد العسكريين الذين أفرطوا في استخدام العنف مع المتظاهرين «طي النسيان». هذا القرار يعيد طرح إشكالية محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري «المتوسّع الصلاحيات»، الأمر الذي يُشكل، وفق الأمم المتحدة، مخالفة لحقوق الإنسان
هديل فرفور
في 11/11/2015، قرر قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا الظنّ بـ 15 متظاهراً، من ضمنهم القاصر رامي محفوظ (مواليد 1999)، مستنداً إلى المواد المتعلّقة بـ «تجمّعات الشغب» و«أعمال الشدّة»، فيما منع المحاكمة عن 9 متظاهرين، وسطّر مذكّرة تحرٍّ لمعرفة كامل هوية الباقين.
هذا القرار يطرح تخوفاً جدياً من إمكانية الحد من حرية التعبير والتظاهر عبر اللجوء إلى التقاضي أمام المحكمة العسكرية المتوسعة الصلاحية، وبالتالي يعيد طرح إشكالية محاكمة مدنيين أمام القضاء العسكري، الذي يُشكك الكثير من الحقوقيين باستقلاليته، نظراً إلى «طبيعة تكوينه»، القائمة على «حضور خجول للقضاة العدليين»، على حد تعبير الدكتورة في القانون الدولي ميريام مهنا، التي تشير إلى «أن الطبيعة الاستثنائية لمحكمة منشَأة لفئة معينة (العسكريين) ومن عناصر ينتمون إلى هذه الفئة، لذلك تضعف أصلاً لدى الفريق غير العسكري شعوره بالثقة باستقلاليتها وحياديتها».
كلام مهنا ينطلق من واقع أن المحكمة العسكرية هي محكمة استثنائية أُنشئت لمهمات محدودة لا تتعدّى النظر في الجرائم والمخالفات التي يرتكبها عناصر السلك العسكري، قبل أن تُسند إليها مهمات واسعة تتجاوز «استثنائيتها» من خلال قوانين صدرت تباعاً (1956/1958/1968)، لـ «تخلُص» إلى إمكانية محاكمتها أي مدني.
الأمم المتحدة: لا يجوز محاكمة مدنيين أمام المحكمة العسكرية
يقول ممثل مكتب اللجنة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة نضال جردي، إنه وفق تقرير اللجنة المعنية لحقوق الإنسان المُعَدّ عام 1997، «لا تجوز محاكمة المدنيين أمام المحكمة العسكرية، ذلك أن الأخيرة متوسعة الصلاحية بشكل يخالف المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، خصوصاً العهد الدولي المتعلّق بالحقوق السياسية والمدنية». فلماذا تُعَدّ مقاضاة مدني أمام المحكمة العسكرية مخالفة لحقوق الإنسان؟
الافتقار إلى شروط المحاكمة العادلة
يفتقر المتضرر، بحسب مهنا، إلى شروط المحاكمة العادلة، إذ لا يحقّ له اتخاذ صفة الادّعاء الشخصيّ أمام القضاء العسكري، وتنحصر صلاحيته بدعوى الحق العام، «وهذا الأمر يشكل خرقاً لمبدأ قانوني رئيسي يقضي بعدم جواز إلزام شخص بنتائج حكم قضائي لم يكن فريقاً في المحاكمة التي أنتجته. وهو ينسف القاعدة الجوهرية القائلة بوجاهية المحاكمة، أي بحق كل طرف بمواجهة الخصم بحججه».
أمّا بالنسبة إلى حقوق الدفاع، فترى مهنا أنه «يشهد تجاوزاً في العديد من أحكام قانون القضاء العسكري. ومن الشواهد على ذلك أنّه يجيز تكليف ضباط مهمة الدفاع عن المحالين أمام القضاء العسكري، ويُعطى المحامي مهلة 24 ساعة فقط للاطّلاع على ملفّ الدعوى وهي غير كافية».
وتُشير مهنا إلى غياب مرجع استئنافي لقرارات قاضي التحقيق العسكري، «الأمر الذي من شأنه أن يهدّد العديد من الضمانات المكرّسة في قانون أصول المحاكمات الجزائية». إلا أن المفارقة اللافتة تكمن في افتقار الأحكام القضائية العسكرية إلى موجب التعليل في الحكم، «إذ يكفي أن يتضمّن الحكم الأسئلة المطروحة والقرارات المتخذة بشأنها بالإجماع أو الأكثرية والعقوبات المقضي بها والمواد القانونية التي طُبّقت ولا لزوم لتدوين نصها».
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن للمحكمة قانوناً خاصاً، هو قانون القضاء العسكري، وأن المحكمة غير مرتبطة بوزارة العدل أو المدعي العام التمييزي ولا بأي سلطة قضائية أو مدنية مستقلة، إنما ارتباطها الإداري بوزارة الدفاع فقط.
ذرائع المحاكمة غير العادلة
تعلّق مصادر قضائية سابقة على مبدأ تقاضي المدنيين أمام المحكمة العسكرية بالقول: «يجب تعديل النص القانوني الذي يعطي صلاحيات واسعة لهذا القضاء، لأنه في ظل وجود النص، ستبقى ذرائع المحاكمة غير العادلة للمدنيين قائمة بحجة التقيّد بالنصوص القانونية».
تشير مصادر مجلس القضاء الأعلى إلى ضرورة التمييز بين المفهوم التقليدي للمحاكم العسكرية والمحاكم ذات الطابع الخاص، مؤكدة خاصية «الصلاحيات الإضافية التي منحها قانون 1958 (المعروف بقانون الإرهاب) للقضاء العسكري»، فبالإضافة إلى مهمات ملاحقة قضايا الإرهاب والتجسس والأعمال العسكرية، سواء أكان المرتكبون مدنيين أم عسكريين، ثمة أدوار «واسعة» أُسندت إلى المحكمة تتمثّل بملاحقة جرائم «النيل من سلطة الدولة وهيبتها والإساءة إلى مؤسسات الدولة الرسمية والعسكرية وإثارة الفوضى والحضّ على النظام (..)». يعلّق المحامي طوني مخايل على هذا الأمر بالقول: «إن هناك الكثير من التعابير الفضفاضة التي من شأنها أن تسمح بملاحقة المدني العادي من خلالها أمام المحكمة العسكرية»، لافتاً إلى «الانحياز للعسكري الذي ترسيه هذه المحكمة».
تشدّد مصادر مجلس القضاء الأعلى على «الطابع الخاص للمحكمة العسكرية»، في محاولة منها للقول إن قاضي التحقيق في المحكمة العسكرية يمارس دوره (الواسع) ضمن ما يتيحه له القانون نفسه. من هنا تأتي أهمية النقاش في إعادة النظر في القوانين التي تحكم القضاء العسكري نفسه. أما جدوى هذه المحكمة، بحسب المصادر نفسها، «فإنها موضوع نقاش واسع لم يجر التوصل فيه إلى نتيجة واضحة وحاسمة».
تلفت المصادر إلى وجود مشروع يلحظ تعديلات على هذه الصلاحيات شكّلتها لجنة من القضاة لا تزال في أدراج وزارة العدل، «والوزير الحالي أشرف ريفي ليس لديه هذا التوجه حالياً»، إذ يجري الحديث عن توجّه ريفي إلى إلغاء هذه المحكمة الاستثنائية برمّتها. إلا أن ريفي لم يتخذ أي موقف سلبي من محاكمة متظاهرين مدنيين أمام المحكمة العسكرية، بل مارس الصمت السلبي الذي ينطوي على موافقة ضمنية، إذ إن موقفه من المحكمة العسكرية جاء على خلفية سياسية لا حقوقية، تتعلق بنتائج محاكمة الوزير السابق ميشال سماحة.
No comments:
Post a Comment