فادي صايغ: هكذا تحدى الإعاقة
يقال: الحاجة أم الاختراع... فكان فادي الصايغ أمّ الاختراع وأباه... طوَّع الحديد ليقوم بخدمته مكان الأيدي التي يحتاجها الإنسان المقعد بمعظم احتياجاته ومتطلبات حياته... ابتكر، صمم، ونفذ متحدياً الإعاقة الجسدية، محطماً إياها أمام عجلات كرسيّه المتحرك قائلاً لها: أيتها الإعاقة أعَقتِ جسدي... لكنك لم ولن تُعيقي عقلي وروحي عن متابعة مسيرة الحياة.
ناشط حقوقي في اتحاد المقعدين اللبنانيين يديرعدة حملات منها: الحملة المدنية للإصلاح الانتخابي والائتلاف الوطني للنقل المستدام، وحملة الأماكن العامة، ومنتدى الشباب.
يكاد لا يخلو اعتصام مطلبي إلاّ ويكون فادي الصايغ في المقدمة، ومن منّا لم ير مشهد الإنسان الذي تحدى بعربته النقالة سيارات النواب قاطعاً عليهم الطريق أمام المجلس النيابي رفضاً للتمديد....
زارته "البلد" في منزله الكائن بمنطقة الحدث- بعبدا... بيت مختلف، فريد من نوعه، أكثر اثاث البيت مدولب ومتحرك، قام فادي الصايغ بتصميمها، وتنفيذها بإمكانيات بسيطة ومجهود فردي... وبإعادة التدوير، مستخدماً قطعا من السيارات، وأحيانا قطعا من غاز قديم، وغيرها من الأدوات البدائية. فبعد سنوات من العمل الدؤوب، أصبح لديه منزل مجهز بكل الوسائل المبتكرة التي تعطي الإنسان المُقعد، ذا الاحتياجات الخاصة، استقلاليته، وتجعله يتخطى عقبات إعاقته ليمارس حياته الطبيعية بأدق تفاصيلها بكل سهولة ودون حاجة للمساعدة.
سرداً لبعض من تجاربه يقول فادي الصايغ: "كنت في العشرين من عمري، طالباً في الجامعة، ناشطا في حركات شبابية وكشفية، متطوعا في الدفاع المدني، أنقذ حياة الآخرين، أطفئ الحرائق، أساعد من هو بحاجة للمساعدة... حصل لي حادث أصبت على إثره بكسر في العنق، كانت نتيجته شللٌ رباعي أحبط معظم قدراتي الحركية في أطرافي الأربعة.
فجأة انهار كل شيء، وجدت نفسي من شخص يساعد إلى شخص مقعد على كرسي نقال بحاجة للمساعدة بكل متطلبات حياته الخاصة، وإلى وجود شخص أو شخصين للبقاء بجانبه طوال الوقت".
التغلب على الإعاقة
يتابع فادي: "خمسة عشر عاماً وأنا على هذه الحال، وجدت أن الاستمرار هكذا محال، نعم... حولي الكثير من الأحبة والأصدقاء، لكن سيأتي يوم ما وستتبدل ظروفهم وقدرتهم وأوقاتهم، فحالتي ليست مرضاً موقتا، بل حالة مستمرة لمدى الحياة".
وبعد بحث عن نوع من الاستقلالية، وجد فادي الحل..."عجزت عن الحركة، فاستطعت أن أجعل كل ما احتاجه متحركا"...
لنبدأ مع فادي الصايغ من أمام منزله، أوقف سيارته التي جهزها تجهيزا تاما بحيث لا يحتاج مطلقا لاي مساعدة في الصعود اليها او النزول منها.
يد خفية عبارة عن جهاز يدوي أنزلت عربته عن سطح السيارة، ووضعتها بجانبه... جهاز مثبت في سقف السيارة حمله إلى الكرسي بعد تثبيت الحزام حول جسده بطريقة بدائية باستخدام قطع مطوية من الحديد على شكل "خطافات"... وبالمقابل يعود هذا الجهاز لحمل العربة الى سقف السيارة حين يصعد فادي اليها.
كان بحاجة لشخصين ليدخلاه وينزلاه من السيارة "الامر كان يتم بصعوبة بالغة، كلما أردت الخروج في مشوار أقضي أسبوعا في التخطيط، أصبحت ممارسة نشاطاتي مرهونة بمساعدة الآخرين، من سيرافقني ومن سيحملني؟!.... شعرت بنفسي انني عبء ثقيل على المحيطين بي... وشعرت أن حبهم لي أيضاً، عبء عليهم، فلكل منهم ظروفه ومسؤولياته".
فرحة التحدي
أول مرة صعدت إلى سيارتي دون مساعدة كانت فرحتي تفوق الوصف شعرت بأنني عدت للسير على قدمي من جديد، خمسة عشر عاماً والناس يحملونني من تحت إبطيَّ ومن قدميَّ، وأصاب بالرعب من أن أسقط من بين أيديهم، أو أن يصابوا بالأذى بسبب ثقل جسدي، عدا ما كنت أتحمله من أوجاع.... قال لي رفاقي: "مش رح تظبط معك يا فادي، بدك تبقى محتاج مساعدتنا لأنو مستحيل تقدر تطلع على السيارة لوحدك"... ولكن بإصراري ذللت المستحيل، الآن أصعد إلى سيارتي وأنزل بسهولة، استعدت حريتي، أذهب وأعود وقت أشاء... الإنسان العادي يحتاج إلى لحظات لدخول سيارته والنزول منها، ما الفرق بيني وبينه، إذا صعد هو بلحظة وأنا تطلب مني الأمر عشر دقائق؟!... إنها ضريبة الاستقلالية".
اتجه فادي بعربته نحو البيت، على مدخله عدة درجات، استعاض عنها بمنحدر لولبي من تصميمه.
ابتكارات عجيبة
المنزل من الداخل له تنسيق جميل ومريح... ما كدت أجلس حتى اقتربت مني طاولة صغيرة عليها بعض الحلوى والفاكهة، نظرت حولي لأرى من أين أتت هذه الطاولة، فقال فادي ضاحكا: "سترين أشياء عجيبة هنا". البيت عبارة عن صالة واسعة دون جدران، مقسمة إلى غرفة جلوس، غرفة نوم، مطبخ، وحمام... كل ما في البيت مدهش ومفاجئ... تصدمك خزانة الثياب، قسمها العلوي محاذيا للسقف، فجأة تنزل لتصبح أمامك بلمسة بسيطة وبشكل يدوي "كنت أفكر كيف سأرتدي ثيابي وحدي، وكيف أتناولها من مكانها. وجدت الحل، وجعلت الخزانة متحركة بشكل دائري من السقف حتى الأرض أي جزء أريده يصبح أمامي... كل قطعة من ثيابي صممت لها ما يناسبها تسهيلاً لارتدائها بسهولة، فالثياب العلوية، والبنطلونات، وحتى الثياب الداخلية، كل منها لها طريقتها الخاصة في اللبس. أصبحت هي التي تلبسني وليس أنا من يلبسها"...
الطاولات التي يستعملها لطعامه، ولعمله على الكمبيوتر، دون أرجل، تتبعه حيث يحتاجها في أنحاء البيت، كما جهاز التلفزيون أيضاً.
فوق سريره جسر مثبت في السقف يمتد الى فوق الحمام، تتدلى منه أحزمة، بكبسة زر تحمل الشخص وتضعه فوق السرير، او تحمله الى الحمام، وجهاز آخر يتحكم بكشف الغطاء، وإعادته، والتحكم به بما يتلاءم مع متطلبات النائم فيه... والشيء الأكثر غرابة، لوحة مفاتيح التحكم الكهربائي (تابلوه الكهرباء)، فهو أيضاً، متحرك. فهل رأى أحدٌ منكم لوحا كهربائيا يأتينا عند الطلب؟!.
الحمام اكثر الاماكن المدهشة في التجهيز "فكرت في الحمام، أنه من أهم احتياجات الإنسان الخاصة، قررت أن أتخطى هذه العقبة مهما كلفني الأمر من جهد ووقت". نجح فادي بتجهيز الحمام بشكل مدهش... السكة الحديدية في السقف تحمله إلى كرسي الحمام، خزانة أشيائه الخاصة مقسمة إلى خزائن صغيرة، فيها كل ما يحتاجه أثناء الاستحمام من مناشف، وثياب، وأدوات النظافة، كلها تأتي أمامه واحدة تلو الأخرى، حتى ليفة الحمام لها ما يناسبها من تصميم.
المغسلة أخذت منه عمل ستة أشهر "صنعت لها قالباً من فيبر غلاس، وجعلتها متحركة دون قاعدة كي استطيع إدخال عربتي تحتها بسهولة".
لم يترك فادي في المطبخ وسيلة تسهّل له عملية تحضير الطعام وتنظيف الصحون، أو الوصول إلى الأدوات المطبخية التي يحتاجها، إلاّ ووجد لها حلاً... آلة تحمل الطعام الساخن الى امامه، خزانة المطبخ المؤلفة من عدة خزائن صغيرة، والتي تحتوي على أدوات المطبخ، تدور أمامه ليختار منها ما يريد. المجلى أيضاً، والنافذة التي فوقه، نالا حصتهما من التجهيز.
يبتسم فادي ساخراً ويقول: "حين كنت بمركز التأهيل قالوا لي حينها: حالتك صعبة جدا، أنت انتهيت، وضعك سيئ وتحتاج إلى من يبقى بجانبك ويساعدك مدى الحياة... ولكنهم لم يدركوا أن الكرسي الذي تحتي لا يمكن أن يثنيني عن تحقيق ما أريد، أو يمنعني عن ممارسة دوري في الحياة كأي انسان آخر.
مثال ناجح
إن التصاميم التي قام بها فادي تستحق الوقوف عندها ودراستها وتطويرها من قبل الجهات المعنية وطلاب الهندسة الميكانيكية والداخلية... من أجل إعادة الاستقلالية لذوي الحاجات الخاصة بكل احتياجاتهم الخاصة، بما لها من تأثير إيجابي على حالتهم الصحية والنفسية والاجتماعية، بالإضافة الى تخفيف الأعباء الثقيلة عن كاهل عائلاتهم.
فكما أنجبت المشكلة فادي الصايغ ليتحدى الإعاقة الجسدية ويصنع منها أفق أمل لكل من أرادت لهم الحياة أن يكونوا مختلفين... فهل ستنجب يوماً ما مسؤولاً في بلد كل مسؤوليه معوّقون إنسانياً وضميرياً، لينفض غبار الإهمال عن قانون الـ 220 الخاص بالمعوقين؟!.
No comments:
Post a Comment