ليس سهلاً الاستماع إلى فتى مراهق يشكو من مشكلة تخصّه ولا يجد حلًا لها، إلا أن الأصعب يبقى أن ترى هذا الفتى سجيناً وراء القضبان، يدفع ثمن جرم، قد يكون ارتكبه عن غير قصد.
هنا مبنى «أحداث» سجن رومية. يبعد المبنى بضعة أمتار عن مباني أكبر سجن في لبنان، يكتظّ بسجناء محكومين أو موقوفين ينتظرون أحكام الإدانة أو البراءة.
لمبنى الأحداث 100 قصة وقصة يرويها يافعون بين سن الثالثة عشرة والثامنة عشرة، ويتراوح عددهم بين 160 و170 من الجنسيات اللبنانية والسورية والفلسطينية.
بدأ هؤلاء نهارهم أمس، عند السادسة صباحًا، ليحوّلوا أجواء المبنى الى مهرجان كبير نظمه «مكتب التعاون الإيطالي» و«السفارة الإيطالية»، بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة الإقليمي المعني بالمخدرات والجريمة ووزارة العدل والمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي.
«موسيقى بلا قيود، ألحان بلا حدود»، هو اسم المهرجان الذي أحيته فرقة «قبيلة» الإيطالية بقيادة مغنيها اللبناني أحمد شومان، وشاركت فيه مجموعة من يافعي سجن الأحداث.
الثانية عشرة ظهراً. غادر اليافعون غرفهم وانتقلوا الى باحة السجن لحضور المهرجان. تعتلي مجموعة منهم المسرح وتقف وراء شومان لتغنّي معه «بنت الشلبية» للسيدة فيروز وقصيدة الشاعر الراحل محمود درويش «أحنّ إلى خبز أمي» التي ترجمها شومان الى اللغتين الانكليزية والايطالية»، إضافة الى أغنية ايطالية، تدرّب عليها اليافعون مع شومان قبل الحفل بأسبوع.
في المشهد، تعلو صرخة الفرح، ويصفّق الجميع على إيقاع موسيقى الفرقة الإيطالية. صورة جميلة تعكس واقعًا مريرًا يعيشه هؤلاء داخل السجن. كان من المفترض أن يتابعوا دراستهم في الخارج، لو لم تغدر بهم ظروف الحياة. كان حضورهم للحفل الموسيقي أشبه بمتابعتهم حصة دراسية. الموسيقى وحدها كانت سيدة الموقف، أخذتهم الى عالم أجمل، يحلمون به بعيداً عن جرائمٍ ارتكبوها. في هذه اللحظة، لا وقت للعودة الى الوراء، ولا جدوى من الشعور بالانتقام. استمرّ الحفل ساعة واحدة، وفي ختامه رقص السجناء الدبكة على إيقاع أغنية «على دلعونة».
أريد أمي
حسين (اسم مستعار وعمره 17 سنة) هو أحد الأشخاص الذين شاركوا في الغناء مع الفرقة الايطالية. تصعب على حسين فكرة الخروج حاملاً لقب سجين. لم يحاكم حتى الآن. دخل السجن منذ ستة أشهر بتهمة السرقة والتهديد بالقتل. تقول روايته إنه «وقع ضحية ابن عمته، المطلوب من قبل الدولة اللبنانية لارتكابه جرائم عدة، فورّطه ظلماً». قبل السجن، أمضى حسين حياته في المدرسة الداخلية، لان والده كان مسجوناً. أما والدته فتركته حين كان عمره ثلاثة أشهر. يحنّ الى مقاعد الدراسة، على الرغم من أنه لا يحبّها. يشيد بالمعاملة الحسنة التي يتلقاها وأترابه من إدارة السجن، وتأهيله على الصعيد الشخصي من خلال المشاركة في دورات تعليمية. فما الذي ينوي فعله بعد الخروج من السجن. لا يملك حسين جواباً. يلتزم الصمت، ثم يبكي «أريد أمي».
«الموسيقى تليق بنا»
لم يشعر جورج (اسم مستعار وعمره 16 سنة) بأي إحراج وهو يعترف بأن السبب في سجنه هو المتاجرة بالمخدرات، منذ كان عمره 12 عاماً. تقدّم بطلب إخلاء سبيل وما زال ينتظر الردّ. يجهل مصيره بعد الخروج من السجن. يؤكد أنه لا يحبّ المدرسة التي هجر مقاعدها منذ الطفولة. كان يجني المال من ترويج المخدرات، فصرفها على نفسه وعائلته. أما همه الوحيد اليوم، فهو تأمين مصاريف دراسة أخيه الصغير «لأن ما بدي يطلع متلي». جورج لم يشارك في المهرجان الموسيقي غناءً، واكتفى بتشجيع أصدقائه والتصفيق لهم.
يحبّ أنس (20 عامًا) وهو سوري الجنسية، الشعر والغناء، ويتمنّى أن يصبح مطرباً بعد خروجه من السجن. هرب من جحيم الحرب في سوريا، فوقع ضحية الفقر في لبنان، ليرتكب جريمة قتل مع أخيه. لم ينقل الى سجن الرجال بسبب حسن سلوكه، ولأن الحكم بالسجن صدر بحقه قبل أن يتم الثامنة عشرة. بالأمس، وقف أنس على المسرح وغنّى لبنان على أمل أن تصدح الموسيقى في فضاء وطنه الجريح.
انتهى المهرجان، وعاد الجميع إلى غرفهم بعدما ودّعوا زوارهم. وحدها الأيادي التي امتدت من خلف القضبان كانت تقول: «عودوا إلينا، فالموسيقى تليق بنا».
Source & Link : Assafir
No comments:
Post a Comment