التعذيب في لبنان ممنهج وليس حادثاً فردياً
حادثة الضرب المبرح، الذي تعرض له سجناء وموقوفون في سجن رومية منذ أيام، هي الدليل بالصورة والصوت على ما واظبت منظمات وتقارير دولية على المجاهرة به طوال سنوات. التعذيب في لبنان عملية ممنهجة لا فردية، ومعالجتها لا تقتصر على محاسبة أفراد، إنما بإقرار وتطبيق تشريعات جدية وفعالة تجرّم التعذيب وتردعه
إيفا الشوفي
في 29 كانون الثاني من العام الماضي، ردت الحكومة اللبنانية على ما نشرته لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، في ملخص نتائج التحقيق السري الذي أجرته لجنة تحقيق أممية، عن ممارسة التعذيب في لبنان. سجّلت الحكومة «ذهولاً تاماً» لما استنتجته اللجنة، وأعربت عن مفاجأة كبيرة للمنطق (المنهجية) الذي اتبعته اللجنة في البحث عن الاستنتاجات الواردة في التقرير، مدعية أنّ الاستنتاجات تستند الى بيانات وشهادات لم تخضع لأي تحقيق علمي او قانوني دقيق. عارضت الحكومة رأي اللجنة القائل إن التعذيب يُمارس بمنهجية، وأكّدت معارضتها للرأي الذي يفيد أن تعريف اللجنة للتعذيب ينطبق في حالة لبنان. بعد مرور سنة ونصف سنة على انكار الحكومة، تراكمت الأدلّة التي تؤكد أنّ التعذيب في لبنان تمارسه منهجياً أجهزة الدولة ويشجّع عليه بعض المسؤولون. التسريب الأخير من سجن رومية، الموثّق بالصوت والصورة، وضع الحكومة اليوم في موقف محرج جداً.
فهي ليست قادرة على مواصلة الانكار او اعتبار التعذيب امرا ملفقاً، وخصوصاً أنها على أبواب استعراض دولي لحقوق الانسان في 2 تشرين الثاني المقبل في مجلس حقوق الانسان في جنيف، اذ ستجري دراسة حالة حقوق الانسان في لبنان ومن ضمنها التعذيب، فهل ستجدد الحكومة «ذهولها» بما ورد في عدد كبير من التقارير؟
قد تكون واقعة الضرب المبرح للموقوفين في سجن رومية أعادت الى الواجهة قضية التعذيب، إلا انه لا يمكن التعاطي معها باعتبارها حادثة فردية منفصلة عمّا سبقها من أحداث وقرارات تدخل ضمن تعريف التعذيب، فما حصل في قضية حمام الآغا مثلاً يدخل في صلب هذا التعريف، إذ اعلنت سابقاً جمعية «حلم» و»المفكرة القانونية» في تقرير مفصّل استخدام الأجهزة الأمنية للضرب المبرح بالعصا وتقنية «الفروج» وترهيب الموقوفين بالتلاعب بنتيجة فحوص فيروس نقص المناعة أو باللجوء إلى الفحوص الشرجية أو أيضاً وضع كيس على رأس أحد الموقوفين موصول بشرائط كهرباء وتهديده بإنزال صدمات كهربائية إن لم يعترف! كذلك كثر الحديث بداية العام عن ممارسات مذلّة مارسها عناصر من الأمن العام على المعابر الحدودية وتحديداً منطقة المصنع ضد اللاجئين السوريين والفلسطينيين من أجل إجبارهم على العودة الى بلدهم في إطار قرار اتخذته الحكومة اللبنانية بمنع استقبالهم.
مكان التعذيب الأكبر ليس السجون بل مراكز التحقيق
منذ أسابيع تعرّضت إحدى المحاميات للضرب على يد عنصر استقصاء تابع لموكب وهمي لوزير الداخلية فأخلي سبيل العنصر على الفور بحجة توجيه كلام ناب له. جميع هذه الأحداث، على سبيل المثال لا الحصر، تؤكد استنتاج لجنة مناهضة التعذيب بأنّ «التعذيب يمارس على نحو منهجي في لبنان» وان هناك «ثقافة» سائدة تحض على استخدام العنف وتشجيعه على يد اجهزة انفاذ القانون.
تؤكد التقارير الدولية أنّ مكان التعذيب الأكبر ليس السجون بل مراكز التحقيق، لذلك فإن المشتبه به يتعرّض للتعذيب بشكل كبير خلال مرحلة التحقيق. يرمي التعذيب في هذه المرحلة إلى انتزاع اعتراف أو الحصول على معلومات من الموقوف، إذ يشير تقرير اللجنة الأخير الى أنّ «التعذيب ممارسة متفشية في لبنان تلجأ إليها القوات المسلحة والأجهزة المكلفة إنفاذ القانون لأغراض التحقيق، ولضمان استخدام الاعترافات في الإجراءات الجنائية، وأحيانًا لمعاقبة الضحايا على الأعمال التي يُعتقد أنهم قد ارتكبوها». ويضيف انّ «الأدلة التي جمّعت من أنحاء مختلفة من البلد خلال التحقيق تشير إلى وجود نمط واضح من تفشي تعذيب المتشبه بهم وسوء معاملتهم في الحجز، بما في ذلك الأشخاص الموقوفون لارتكابهم جرائم تتصل بأمن الدولة وغيرها من الجرائم الخطيرة»، ما يعني انّ ما انكشف ليس سوى رأس الجبل من بين ممارسات التعذيب الحاصلة.
لكن عندما يُرسل المشتبه به الى السجن من المفترض أنّ مرحلة التحقيق قد انتهت أو حققت تقدما ملحوظاً، وبالتالي فإنّ ما يحصل من تعذيب داخل السجن لا علاقة له بانتزاع معلومات إنما من أجل فرض السلطة او ما يسمّى «فرض الهيبة في السجن»، السجن نفسه المكتظ، غير المؤهل، الذي يديره عناصر غير مدربين على إدارة السجون وعلى التعامل مع حالات التمرّد.
ما يحاول العناصر إثباته من «هيبة» عبر تعذيب السجناء، هو ما التقطوه من كلام عدد كبير من المسؤولين في الدولة الذين «سيضربون بيد من حديد كل من يهدد أمن البلد». فمن يلاحظ العبارات التي يستخدمها بعض الوزراء والنواب والقيادات العسكرية يتأكد أنّ التعذيب منهجية قائمة بذاتها، فهل هناك عذاب أكثر من ضرب شخص بيد من حديد؟ عندما تعلن الدولة هذا الأمر هذا يعني انها تعطي شرعية لهؤلاء لضرب المساجين وتعذيبهم لأنهم هددوا أمن البلاد. لذلك، يُعد تصوير الحادثة على يد المرتكبين نوعاً من تعميم القوة على الآخرين في تأكيد على السلطوية المسيطرة من دون أي اعتبار.
يؤكد الامين العام لـ»مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب» محمد صفا أنّ «ما حدث ليس مفاجئاً وحذرنا منه منذ سنوات. فالتعذيب ليس فرديا مثلما يدّعون انّما يبدأ بغياب المحاكمات وانعدام العناية الصحية والاجتماعية والسجون غير المؤهلة، هذا كله يرتقي الى مستوى التعذيب».
المفروض اليوم أن تحصل مراجعة لموضوع التعذيب في السجون، فهل تعد ظروف الاعتقال والسجن تعذيبا؟ هل طريقة نقل السجناء والتأخّر في المحاكمات تعذيب؟
يلفت مصدر قانوني إلى أنّ التسريب أثبت أنّ الأجهزة الأمنية «تستسهل التعذيب في ظل غياب الضوابط وعدم المحاسبة، وبالتالي المطلوب أن تحصل رقابة قضائية ورقابة سياسية يماسها الوزير المختص ومجلس الوزراء، إضافة الى التشدد في المعاقبة المسلكية». وبما أنّ التعذيب ممنهج، لا حادثة فردية، لا يجوز أن تقتصر التحركات على محاسبة المرتكبين المباشرين، إنما يجب وضع استراتيجية مؤسساتية لمنع التعذيب، يؤكد صفا أنّه «يجب على الفور إقرار قانون يجرم التعذيب، وإنشاء الآلية الوطنية لمنع التعذيب ومعاقبة مرتكبي التعذيب». من جهته يسأل المحامي نزار صاغية عن سبب عدم إقرار مشروع قانون تجريم التعذيب، الذي اقترحه النائب غسان مخيبر. ويلفت الى التعديلات الكبيرة التي طرأت على القانون، أبرزها اخراج حالات كثيرة من التعذيب من اطار المعاقبة، بحيث جرى حصر أعمال التعذيب بما يحصل «أثناء الاستقصاء والتحقيق الأولي والتحقيق القضائي والمحاكمات»، ما يعني عدم شمول العقاب ما يحصل في السجون. ووجهت «المفكرة القانونية» انتقادات للصيغة الأخيرة للإقتراح ابرزها «تحفظ اللجنة وحذرها ازاء التشدد في معاقبة أعمال التعذيب، إذ عمدت الى خفض العقوبات الواردة في الاقتراح الأصلي. فجعلت الحد الاقصى للعقوبة ثلاث سنوات حبسا، فيما كان الاقتراح الاصلي ينص على ثلاث سنوات اعتقالا كحد ادنى. وهي بذلك حولت جرم التعذيب من جناية الى جنحة».
No comments:
Post a Comment