الشاويش.. سمسار الإغاثة
كارول كرباج
عينا الشاويش تجولان في المكان بحذر قبل مغادرة أحد مخيمات النازحين السوريين في بر الياس البقاعية. يستدير مجدداً وهو يقود شاحنة تُقلّ عاملات سوريات مكدسات في صندوقها إلى ورش الزراعة المجاورة. يلمح صبيةً تبدو من خارج المكان وهي تترجل من سيارتها على مدخل المخيم، فيعود بإيقاع خاطف. «لوين؟»، يسألها كشرطي حاجز مرور. «لا يمكنك التجوّل في المخيم من دوني». تمتعض وتُلّح على الدخول لتفقّد أوضاع النازحين. فينادي أحدهم في المخيم ليرافقها في جولتها، ليضمن سطوته في فترات غيابه.
المخيم مكتظ بالنازحين. أطفالٌ حفاة يسرقون الابتسامات بين الخيام. نساء ينظرن بارتياب إلى الوافدين وكأنهن يكتمن سخطاً خلف ابتساماتهن المفتعلة. مشهد اكتظاظهم في المخيم لا ينفي حضورهم «غير المرئي». لا يلحظهم العابرون من جمعيات ووفود رسمية. غالبية المنظمات لا تعترف سوى بالشاويش الذي باسمه يلقّب المخيم، ولا تقصد غيره في جولاتها الميدانية.
خوف وتكتم
في مخيم تيسير الجفّال يتربع الشاويش على حصيرة في خيمة لأسرة نازحة. يستجوب من حوله، ويجيب عن الأسئلة باقتضاب من اعتاد التحدّث بنبرة متعالية. تصغي إليه فتاة صغيرة ترتدي لباساً أزرق اللون، وتنظر إليه بخجل وهي تقشر «البطاطا الخلوفية»، كما تُسمى (أي البطاطا التي تُتلف من الموسم الماضي). يقاطعه طفلٌ بين الفينة والأخرى، يأخذ مفتاح دكانه ليشتري منه البوظة. ويعيده بعدها إلى جانب ألف ليرة متجعدة يعصرها الطفل بيده خوفاً من فقدانها.
تشي الجلسة بثقل التكلّف وبانتقاء من يتكلمون لكلماتهم. «الشاويش كتير حباب، بساعد العرب (النازحين) بالمخيم»، تلفظها سيدة خارج أي سياق. لكنها تهمس لي أن أزورها في خيمتها لرؤية زوجها المريض. هناك، تتحوّل المجاملات إلى ردود فعل متناقضة.
«كم تدفعون مقابل السلة الغذائية؟»، أسأل النازحة. تضطرب من السؤال، وتجيب: «ما بندفع». ثم تنظر بارتباك إلى زوجها كأنها ترجوه أن يتكلم بدلاً منها. فيقول بتردّد: «ما تصدقي حدا بقول إنو ما بيدفع للشاويش، بس بتمنى ما يطلع هادا الكلام على لساني».
تعمل وفاء (اسم مستعار) مع بناتها الأربع في ورش الزراعة لسداد إيجار خيمتها ودينها للشاويش الذي تكفّل بتهريب العائلة من سوريا منذ نحو سنة. وتُضطر إلى أن تدفع له خمسة وعشرين ألفاً مقابل السلة الغذائية التي تقدمها إحدى الجمعيات. وحين تعجز عن ذلك، يدّعي الشاويش خلال فترة التوزيع، أنها استلمت المساعدة سابقاً، ولا أحد يجرؤ على تكذيبه. «شو ما صار ما منقدر نحكي بنوب»، يُعبّر زوجها من سريره.
تحتار ميساء (اسم مستعار)، نازحة في مخيم خالد الجمّال، حيال أسئلتي. لكنها تستسلم بنبرة يأس: «صار عادي ندفع لنحصل على مساعدات». تنقل على لسان الشاويش أن «الأستاذ (موظف في أحد المنظمات الدولية) بيطلب مصاري مقابل المساعدات، ونحن ما منعرف شي. منعرف انه لازم ندفع». تخطو امرأة مسنة في اتجاه ميساء وتوبّخها: «مو حرام تقولي إنو عم ندفع!». تبتسم الشابة وتستكمل حديثها همساً: «هاي حماتي، بتخاف كتير من الشاويش». «هل تعرفين إن كان شاويشية المخيمات المجاورة يتقاضون المال أيضاً من النازحين؟»، تردّ بنبرة أشبه بنميمة وهي تحرك يديها تعبيراً عن النفي: «ما بعرف، كل مخيم ما يطلع أسراره لبرا».
تبدو أمينة (اسم مستعار) في مخيم بلال الساروت أقل تردداً في كلامها. على رأسها كوفية، تتداخل ابتسامتها مع تجاعيد وجهها ووشم الحنة على ذقنها: «المساعدات بتجي للمعلم، ما منشوف منها شي». تذكر أنها حصلت مرة على سلة غذائية قدمتها جمعية لا تذكر اسمها: «لو توصل عبر الشاويش ما كنا شفنا منها شي»، تقول بلكنة ريف حلب الثقيلة. وتستدرك عدم فهمي لهجتها، فتنظر إلى صبية بجوارها قائلةً: «احكيلها، انت على دور الحرية، لهجتك أسهل»، وتضحك بصخب.
لا تلغي جرأة أمينة حال الرعب التي يفرضها الشاويش على سكان المخيم. «الظروف أصعب منا. منعلي صوتنا ومنضطر نرجع نسكت. هيك صار بسوريا وهيك عم بصير بلبنان. بسكت لأستر حالي وعائلتي»، يشكو زوج الشابة. وكأن المخيم وشاويشه نسخة عن النظام الذي انتفض في وجهه يوماً في سوريا.
سمسرة
تُشكل الأحداث السورية فرصة للشاويش ليصبح سمسار إغاثة. ينوّع مصادر رزقه ويستفيد من الفرص التي تتيحها مجتمعات النزوح، فيسترزق من عمل النازحين، ومن سكنهم ومساعداتهم. هذا ما رصدته «السفير» في ستة مخيمات مختلفة جالت عليها في منطقة البقاع الأوسط.
على سبيل المثال، تحوّل مخيم موسى الطالب بعد الأحداث في سوريا من مخيم عمال زراعيين إلى مخيم للنازحين. لا يزال موسى يربح ألفي ليرة عمولة على يومية العاملة (تتقاضى ستة آلاف ليرة)، لكنه يستفيد اليوم من ايجار الخيمة مئة ألفٍ في الشهر (قد تصل إلى مئتي ألف في مخيمات أخرى).
يدفع الشاويش نحو مليوني ليرة سنوياً مقابل الدونم الواحد لصاحب الأرض، ويتسع الدونم لنحو ثماني خيام. يؤجر الشاويش الخيمة الواحدة بمليون ومئتي ألف ليرة سنوياً للنازحين (حدّاً أدنى). «ومن لا يستطيع الدفع؟»، يشرح موسى وهو يهزّ فنجان القهوة تعبيراً عن عدم رغبته بالمزيد: «نخصم الإيجار من شغل النسوان».
يقيّد هذا التداخل مصير أولئك النساء، فيصبح عملهن وسكنهن ومعيشتهن مرتبطة مباشرة بالشاويش، وقد يفتح الباب أمام انتهاكات وظروف تلامس العمل الجبري. عبّرت العديد من السوريات اللواتي يقمن في مخيمات مختلفة في البقاع عن تعرضهن لإهانات وتحرش في ورش الزراعة، لكنهن يضطررن إلى السكوت خوفاً من طردهن من المخيم. «بيغلط الشاويش بالكلام مع بناتنا. بس ما فينا نعمل شي، بقلّعنا من التخشيبة» (أي الخيمة)، تعبّر أمينة شاتمةً الشاويش وعيشتها.
ولا تقتصر سيطرة الشاويش على مصدر عمل النازحين ومكان سكنهم، بل تشمل مساعدات الإغاثة أيضاً. يبيع غالبية شاويشية المخيمات قسائم المساعدات التي تصل إليهم من المنظمات الدولية والمحلية، لدرجة تحديدهم «تسعيرة السوق» المشتركة بين المخيمات كلها: سلة غذائية شهرية بخمسة وعشرين ألفاً، خزان مياه بخمسة عشر ألفاً، قسيمة ربطات خبز شهرية بخمسة عشر ألفاً، وقسيمة ألبسة بخمسة أو عشرة آلاف (بالليرة اللبنانية).
تروي ديانا (اسم مستعار)، وهي موظفة في إحدى الجمعيات السورية العاملة في مخيمات البقاع، كيف اكتشفت بيع الشاويش قسائم الثياب. لاحظت ديانا أن سيدةً أخذت أكثر من حصتها من الألبسة من خيمة التوزيع. فقالت لها: «يكفي، لا يمكنك الحصول على المزيد». فردت السيدة: «بس هدول بعشرة آلاف؟»، ثم وضعت يدها على فمها خوفاً من تداعيات زلة لسانها.
منذ تلك الحادثة، أصبح فريق التوزيع يتوجّه مباشرةً إلى خيم النازحين على الرغم من الوقت المضاعف الذي تستغرقه العملية. «بعد خبرة بتوزيع المساعدات في عشرات المخيمات بالبقاع، لاحظنا أن غالبية الشاويشية تستفيد من الإغاثة، حتى أن العديد منهم يملكون دكاكين في المخيمات لبيع المساعدات». تبتسم قائلةً: «صرنا من الخبرة منعرف دغري إذا الشاويش حرامي.. من دكانته. وطبعاً بيته أرتب، اولاده بيلبسوا وبياكلوا غير شي». تستكمل بسخرية: «بالآخر أمر مش صعب إنو الشاويش يستفيد على ظهر اللاجئين. مخوّف الناس. ما حدا بحاسبه».
تواطؤ الجمعيات
الجميع كان يحدق في سوسن (اسم مستعار) وهي تتجوّل في مخيم صقر، لأنها تحدّت وحيدةً شاويش المخيم، وأخضعته. حين وصلت تلك السيدة الأربعينية من حلب مع أولادها الخمسة إلى المخيم، لم تكن تملك شيئاً لتفقده. قاسمتها نازحة أخرى الخيمة من دون مقابل، لكنها لم تتمكن من دفع خمسة وعشرين ألفاً مقابل سلة غذائية. ثارت عليه أمام الجميع، وصرخت في وجهه لامباليةً بهالته. وحدث ما كان متوقعاً: طردها مع أطفالها من المخيم. اشتكت إلى إحدى الجمعيات التي صودف وجودها لحظة العراك، فتواصلت مع مسؤول المنظمة المعنية ليضغط على الشاويش. تمكن الموظف من إعادة أسرة سوسن إلى المخيم، وقرّر أن يوصل لها المساعدة مباشرةً إلى خيمتها، لكن مقابل الصمت وعدم تحريض الآخرين.
تطلب من ابنتها إغلاق باب الخيمة: «دخيلك بلا ما نستفزه هلق (للشاويش). من غير شي بجنّ جنونه كل ما حدا يقصدنا». وتتفقد إذا كان أحدهم يتنصت. تخفي شعرها الكستنائي خلف حجابها في ظلال الخيمة، مؤكدةً أنها تستلم استثنائياً مساعدتها من دون مقابل، بينما يُضطر الباقون إلى دفع ثمنها إلى الشاويش. لا تتعاطى سوسن نهائياً معه، ولا تستفيد من أي مساعدة «تضخها» الجمعيات في خيمته. لا تزال على موقفها، ترفض أن تدفع ثمن مساعدات من حقها الحصول عليها مجاناً. إذاً، لا يمكن الجزم إذا كان مسؤول المنظمة المعنية يشارك الشاويش في أرباح المساعدات، لكن المؤكد أنه متواطئ معه. يُغطي فساده، ويُسهّل عليه المهمة.
في خيمة الشاويش، تمتدح ابنة أبو سلطان (شاويش مخيم صقر) تفاني والدها في خدمة النازحين. «معظم اللجان (أي الجمعيات) بتوثق بأبو سلطان وبتترك المساعدات عنده، وهو بوزعها على العرب». وتستكمل بعفوية تعداد خصال أبيها: «اللجنة بتعطي ابو سلطان أحياناً 4 أو 5 سلل غذائية بالشهر، وأوقات بيعطي منها للعائلات المحتاجة. ما بيقسم أبو سلطان مع العرب».
غالبية المنظمات متواطئة مع الشاويش، وإن بدرجات متفاوتة. البعض يتقاسم معه «الأرباح»، والبعض الآخر يستسهل التعامل معه، فيصمت عن تجاوزاته. تؤكد ديانا أنه نادراً ما تستهدف الجمعيات مباشرةً الأسر النازحة خلال عمليات التوزيع، لأن جمع الإحصاءات من الشاويش وتمركز المساعدات عنده يوفّران لها الوقت والجهد و«وجع الراس». فمحاولات تخطي الشاويش، والحدّ من صلاحياته، تستدعي مواجهةً لا تستهوي في العادة موظفي الجمعيات. يتعاملون مع الأمر الواقع، أو يستفيدون منه.
حين تجرأ أحد الناشطين السوريين العاملين في الإغاثة وأبلغ الأمن العام عن أحد شاويشية مخيمات البقاع على خلفية سرقته المساعدات التي يقدمونها للنازحين، وضع شاويش آخر (لبناني) المسدس في رقبته يُحذره من العبث مع الشاويشية والتبليغ عنهم. أما ضابط الأمن في مفرزة زحلة الذي تابع القضية، فاكتفى بالقول إن «مسألة فساد الإغاثة معقدة جداً لأنها غير مرتبطة بالشاويش وحده، بل بمن يغطّيه ويقف خلفه من منظمات ورؤساء بلديات ومخاتير. يمكن اعتقال شاويش أو اثنين، لكن لا يمكن اعتقال المئات، خصوصاً أن الأمر يتخطى الشاويش وهناك مصالح أكبر منه».
تعد حادثة التبليغ تلك استثناءً في المشهد، فغالبية المنظمات تتحاشى الصدام و«الشوشرة». هذا ما تؤكده مسؤولة مشروع سابقة في منظمة دولية: «نعلم بحدوث السرقة، لكننا نغمض أعيننا خوفاً من حصول شوشرة مع الممول. تفضل المنظمات عادةً التكتم عن الفساد، بدلاً من فضحه وفقدان التمويل». قدمت الموظفة استقالتها لهذا السبب: «نظرياً، نعرف أن المساعدات الإنسانية لا تصل مئة في المئة إلى المستفيدين، لكن حين أرى حال الأولاد المؤلمة في المخيمات، لا يمكنني مشاهدة الفساد والصمت عنه».
هكذا، يشي المشهد بمنظومة فساد أفرزتها مجتمعات النزوح، تتخطى الأفراد. يبدو فيها الشاويش الأكثر بطشاً، لكنه حلقة ضمن منتفعين كثيرين. ظلمه مرئي، يُحدث غضباً في موازاة النظر إلى وجوه مسحوقة. وسط تلك التناقضات التي تظهر ميدانياً، تقع العين على جملة كُتبت بخطِ يدٍ على مدخل أحد المخيمات: «ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا» (لمحمود درويش)، تعبّر عن انسداد فـــرص حياة هؤلاء، وظلم المستفيدين من أفولها.
آمر ومأمور
لا يختلف شاويش مخيمات النزوح كثيراً عن أصل الكلمة التركية التي ارتبطت بالبطش العثماني: الشاويش رتبة عسكرية توازي الرقيب. يُستخدم التعبير في الحياة المدنية للدلالة على الأشخاص الذين يشرفون على مجموعة «أسفلهم» ويتلقون الأوامر من «الأعلى». فالشاويش هو آمر ومأمور في الوقت نفسه، يؤدي دور الوسيط بين إدارة السجن والسجناء، كبار المزارعين (أو متعهدو البناء) والعمال. ما يميّز الشاويش أنه على تماس مع الناس، حاضر في حياتهم اليومية، يفهم بيئتهم المحلية. فهو «القبضاي» المحلي، يترجم القسوة الآتية من «الأعلى» إلى ضغط على «الأسفل» (عمال، سجناء.. أو نازحين).
الشاويش يعتبر من داخل «المجموعة» وخارجها في الوقت نفسه. لا ينتمي إلى عائلات «الأكابر»: ليس من المالكين وليس ميسوراً. لكن وضعه المادي أفضل من الباقين نتيجة علاقاته مع «الكبار» وقدرته على ترهيب «الجمهور».
باختصار، الشاويش تسمية يصل إليها كل من يتقن تنفيذ الأوامر، «القبضنة» و«المونة» على الناس. لكن القمع وحده لا يكفي لسيطرة الشاويش، يتقن القدرة على الكلام، ومعرفته بـ«الجماعة» تخوله أن يتحدث باسمها.
يحمل المعنى الراهن للشاويش، سواء أكان لبنانياً أم سورياً، صلة الوصل بين النازحين والمنظمات غير الحكومية التي غالباً ما تجهل بيئة سكان المخيمات المحلية. وتنبثق سيطرته من خبرته بمكان النزوح كمتعهد ورش عمال، أو من هيبته كشيخ إحدى العشائر في الأرياف السورية. ينسج علاقات مع موظفي المنظمات والمخاتير ورؤساء البلديات تسمح له بأن يكون وسيطاً يُشرف على النازحين، وينتفع باسم حمايتهم.
يستحلي بنات المخيم
يتعامل الشاويش مع أسر سورية ليست بخير، وفي أكثر حالاتها هشاشةً. تشردت، تفككت وفقدت معيلها. ما يجعل الشاويش أكثر قوة وبطشاً. فإذا كان يحرص على بيئة من يحكمهم وثقافتهم المحافظة في الأوقات العادية، توفر ظروف الحرب والتهجير لكثيرين إمكانية التعسف المطلق.
وفي مخيمات يغلب عليها الحضور النسائي، نتيجة الأحداث في سوريا، يشعر بعض الشاويشية أنهم أزواج النازحات جميعاً. ينتقي المرأة التي تستحليها العين من الخيمة التي تعجبه، ويمارس ابتزازاً وتهديداً للحصول عليها. فبعد تحكمه بمصدر رزق النازحين وسكنهم وإغاثتهم، يستخدم البعض الجنس لتصبح سيطرته مطلقة في المخيم. في أحد مخيمات بر الياس البقاعية، عاقب الشاويش سكان المخيم بأكمله لرفض إحدى الأسر النازحة «إعطاءه» ابنتهم القاصر. تحتقن الأم وتصر على رواية قصة ابنتها مع الشاويش. «لا تحكي»، يتوسلها زوجها التزام الصمت، وتدمع عيناه. وتكمل الأم كلامها، وهي تتفادى النظر إلى زوجها. أعجب الشاويش بطفلة يكبرها بخمسة وثلاثين سنة، وصار يضايقها في ورش الزراعة حيث كانت تعمل. شعرت الفتاة بالضيق، وأخبرت شقيقتها بعدم رغبتها في الذهاب إلى الورشة. تُخرج الأم صورة ابنتها من عباءتها: «شوفيها متل القمر، لسه ما صار عمرها 15 سنة». تحدق شقيقتها بدموع والدها وهي تصغي إلى تفاصيل القصة، فتدمع أيضاً. «مين مفكر حاله؟ يستحلي بنات العالم وياخذهم بالقوة»، تقول الأم.
هدّد الشاويش والدها بـ«مذبحة» إذا لم يقبل بالزواج، كي لا يعبث معه. فاضطرت الأسرة إلى إبعاد الطفلة إلى حلب، وتزويجها ابن عمها على عجل خوفاً من أن يخطفها الشاويش بالقوة. فأُخرجت من المخيم خلال الليل لتعود إلى حلب وسط المعارك الدائرة.
واليوم، يمارس الشاويش قصاصاً جماعياً على المخيم منذ حادثة سفر الطفلة التي يبدو أنها أحرجت نفوذه في المخيم. أوقف عنهم المساعدات، ومنع موظفي الجمعيات من زيارة المخيم.
يمتلك الشاويش المذكور، وهو لبناني، سلطة في المنطقة نتيجة علاقاته بالفعاليات المحلية وكون أخيه في إحدى المؤسسات الأمنية. سبق أن تزوج بسوريتَين قاصرين من سكان المخيم، ولم يستحمل فكرة عدم حيازته على «الثالثة». تتحدث الأم عن زوجته الأخيرة (عمرها خمس عشرة سنة أيضاً): «أهلها يا حرام كانوا مديونين للشاويش، ما قدروا يدفعوا الإيجار لأشهر، فزوجوا بنتهم مقابل يعفيهم من الدين».
لا تزال شقيقة الطفلة تعمل في ورش الزراعة مع الشاويش لتؤمن سقفاً لأسرتها، لكن مسألة الزواج تُعدّ خطاً أحمر بالنسبة إلى الأسرة: «نحن ما منرضى نبيع بناتنا»، تلفظها بانفعال وغضب شديدين.