نقيب محامي باريس يطالب بإلغاء الإعدام
محاكمة جديدة لجريمة قديمة
جعفر العطار
وقف الشاب المتهم ناصر ف. أكثر من ساعتين في قاعة المحكمة أمس، تائهاً بين القضاة والمحامين، بعينيه الحائرتين ورأسه المنحني ويديه المكبلتين. استمع إلى وقائع قصة قتل نفذها قبل أكثر من عامين، حين طعن الصرّاف محمد الناتوت في صيدا إحدى عشرة طعنة، تاركاً في محل الصيرفة سكيناً مضرجة بالدماء، وصورته، قاتلاً، لكاميرا المراقبة.
الشاب المحكوم بالإعدام، كان محكوماً بالملل ظهر أمس وهو يستمع إلى الادعاء والدفاع، في جلسة بدت كما لو أنها محاكمة جديدة، بعدما تقدم الدفاع بتمييز الحكم، في سياق حملة مدنية تسعى إلى إلغاء عقوبة الإعدام، رمت أول حجارتها أمس، انطلاقاً من فكرة تطمح إلى اصطياد عصفور واحد بأكثر من حجر: «عقوبة الإعدام جريمة». ثلاث كلمات رددها نقيب محامي باريس بيار أوليفييه سور، في قاعة المحكمة ببيروت، ببطء بدا متعمداً.
كان الشاب العشريني ينظر إلى المحامي الأنيق بهدوء، منتظراً الترجمة العربية التي تولتها شابة شقراء وقفت إلى جانب سور: «لا أحد يمكنه أن يسلبنا الحياة. عقوبة الإعدام ليست عقوبة مثالية، والمجتمع لا يجب أن يدفعنا إلى تنفيذ جريمة مماثلة، بتخطيط مسبق».
ربما عرف ناصر، سلفاً، أن مصير المشنقة لن يُحدد في جلسة واحدة، لذلك لم ترتسم على وجهه ملامح الأمل أو الانتظار، بل كان يستمع إلى وقائع الجريمة التي نفذها، بهدوء اقترب من الملل واليأس: «حضرة القاضي، لقد أقدم هذا الشاب على فعل جريمته طعنة تلو طعنة، بعدما انتظر ساعات طويلة وهو يراقب الطريق والمحل. وبعدما قتل المغدور بإحدى عشرة طعنة، توجه إلى أماكن اللهو والرذيلة في الليلة ذاتها، وكانت خطته تقضي بأن يذهب بعد ذلك إلى بلده سوريا».
لم ينفعل ناصر أثناء سماعه مرافعة الادعاء. كان يرفع رأسه ويخفضه بين الحين والآخر، محدقاً في وجه القاضي، بينما كان الحاضرون في قاعة المحكمة يحدّقون في وجه القاتل، الشاب النحيل الهادئ، يتفحصونه ويراقبونه تزامناً مع مرافعة الدفاع: «حضرة القاضي، ناصر كان مشرداً لثلاثة أيام في صيدا قبل ارتكابه الجريمة. وحين أقدم على القتل كان ثملاً. هو لم يخطط لجريمته. لم يحاول إخفاء وجهه أو استخدام قفازين لإخفاء البصمات، وترك السكين هناك. تعدد الطعنات يؤكد أنه كان في حالة توتر. لقد عاش طفولة قاسية، ثم هرب من سوريا إلى هنا. إنه يطلب السماح والمغفرة».
وكلاء الدفاع عن ناصر لم يبرروا الجريمة. حاولوا في مرافعتهم التأكيد أن الشاب لم يخطط مسبقاً لما فعله، بل كان ثملاً حين قتل الناتوت، سعياً منهم لإبعاد المشنقة عن عنقه، بمساعدة تحدث للمرة الأولى في لبنان، من جانب نقيب محامي باريس، ومحامين تبرعوا للدفاع عنه بطلب من «جمعية عدل ورحمة» التي تسعى إلى التوصل لقانون يلغي عقوبة الإعدام، وأمس نفذت أولى خطواتها قضائياً.
كرر المدافعون عن ناصر كلمة «تخطيط»، حتى أن سور استشهد بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، قائلاً إن «تلك الجريمة تم التخطيط لها، لكن المنفذين لن تصدر بحقهم عقوبة الإعدام من جانب المحكمة الدولية، بينما هذا المتهم لم يخطط للجريمة وحُكم عليه بالإعدام في بلدكم. المتهم الماثل أمام المحكمة هنا، لم يفكر لدى ارتكابه الجرم، لا في المحامي ولا في القاضي ولا في القانون ولا في العقوبة».
هادئة بدأت المرافعة أمس، وبهدوء انتهت، بتأجيل المحاكمة، وانتظار ناصر لمصير مشنقة يطالب حقوقيون بشنقها، مؤكدين أن «الدول التي ألغت عقوبة الإعدام لم تشهد ارتفاعاً في عدد الجرائم الدامية، بل على العكس تشير الأرقام إلى تراجع هذه الجرائم»، بينما يعتبر آخرون أنها الفزاعة التي قد تجبر الإنسان على التفكير مراراً، قبل أن يغدو قاتلاً.
مكبلاً، عاد ناصر إلى السجن، وسيتذكر كل يوم وقائع جريمة هزّت صيدا بطعناتها الإحدى عشرة، فيما غادر الحاضرون قاعة المحكمة وهم يتفحصون وجهه، برهبة لا تشبه اليأس الذي سكن عينيه الحائرتين بملل.
No comments:
Post a Comment