كانت المجتمعات العربية لعقود مضت ترزح تحت وطأة التربية المتشددة التي يتبعها الأهل في تربية أبنائهم·فقد كان الأهل غالبا يغالون في فرض التعليمات والقواعد الصارمة على أبنائهم ودون أن يفسحوا لهم المجال للتعبير عن آرائهم تحت قناعة <ما يصلح للأجداد يصلح أيضا للأبناء>، لذا كان الرأي السائد أن هذه التربية تحمي الأبناء وتدرأ عنهم الأخطار·
وحتى الآن لم ينصرف المجتمع العربي عن اعتماد هذا الأسلوب، إلا أن وتيرته تراجعت بشكل ملحوظ بفعل تطور المجتمع وغزو الثقافات الغربية للمجتمعات العربية ودخولها إلى كل بيت من خلال وسائل التكنولوجيا المختلفة، وبفعل التيقن من عقم هذا الأسلوب الذي يخلق مشاكل نفسية حادة للأبناء قد تقود أحيانا إلى الإنتحار، أو إلى الإنزلاق في وحول الإنحراف والضياع· وبدأ الإتجاه إلى اعتماد أسلوب جديد كردّة فعل على الأسلوب التقليدي، يطلق العنان للأبناء في اتخاذ القرارات، وفي اتباع السلوك المناسب بحرية مطلقة دون قيود أو رقابة، فترتب على هذا الشكل الآخر مشاكل نفسية تمثلت في العدوانية والأنانية والخروج على احترام الآخرين·من هنا أطلق علماء النفس التربوي والإجتماعي الحديث صرخة رفضوا فيها الأسلوبين، ودعوا إلى أسلوب وسطي يقوم على الإعتدال وإعطاء الحرية مع الرقابة غير المباشرة، بعد نجاح هذا الأسلوب الذي يعتبرونه النظام التربوي الأسلم والأمثل الذي ينشئ أبناء أسوياء، مقبولين وناجحين اجتماعيا· تفرك يديها، تنظر الى الساعة، تروح وتجيء، تتوجه الى مرآتها لتعيد تصفيف شعرها وتعدل في <الماكياج>، وتعود لتطل من النافذة، لا احد، لقد نفد صبرها··· وبينما هي في ارباكها اذ بالباب يقرع···انفرجت اساريرها، ها قد وصل حبيبها الذي تنتظره منذ فترة طويلة·لم يتعدَّ الانتظار نصف الساعة لكن الثواني مرت بطيئة، ثقيلة على بتول·م التي ما إن خرج والداها من المنزل حتى التقطت الجوال الذي اهداها اياه حبيبها خالد·ص وارسلت اليه رسالة نصية قصيرة (اس ام اس) لتخبره انه اصبح بامكانه الحضور لرؤيتها· حالات تشدد تؤكد بتول الفتاة الجامعية وابنة البيئة الدينية، البالغة تسعة عشرة عاما، انها تلقى معاملة سيئة من والديها اللذين يحرمانها من الخروج من المنزل، من اقتناء جوال وحاسوب كما تقتني الفتيات الاخريات في مثل سنها، وتتابع بسخرية: <يحددان البرامج التلفزيونية التي بامكاني مشاهدتها، والتي لا تتعارض والشريعة الدينية وكذلك قيم العائلة وثقافتها>· وحول تحصيلها الجامعي تؤكد بتول بأن العائلة المحافظة لا تسمح لابنتها بالذهاب الى الجامعة بمفردها لاحضار<كورات الدراسة>· تقول: <يكلف والدي اخي البكر مرافقتي الى هناك، وذلك لتأمين تحصيلي الجامعي كما يزعمون على اكمل وجه، عبر المذاكرة المنزلية· وتتابع: <اما صديقاتي فتقتصرن على القريبات اللواتي هنّ في مثل سني>· وتشيح بتول بوجهها بعيدا وتتساءل: <اشعر باحراج شديد لتخلفي عن الاخريات، لا افهم لِمَ اهلي لا يثقون بي؟>، وتتابع: <مللت تقاليدهم البالية التي لم تعد تصلح لجيلنا>· والدة بتول الجاهلة بسلوك ابنتها تفتخر بتربية ابنائها> السليمة> كما تصفها: < لان العائلة تتبنى اسلوبا يحمي اولادي ويجنبهم الخطايا والحرام والوقوع في الضلال ورفقة السوء>، مستطردة: <زمن مخيف تكثر فيه الرذائل والفواحش وعلينا احكام رقابتنا لئلا نخسرهم>· الامر يختلف بالنسبة لمصطفى·ش ابن التسع سنوات الذي يتقوقع في زاوية الغرفة، يهيم بعيون تائهة لا مبالية، تعيّيه اطرافه المرتعشة، ويخذله وجهه الشاحب الخالي من ملامح الحياة في ايجاد صلة تربطه بعالم البشر· وعندما يدفعك فضولك الى سبر غور افكاره، يشعرك بغربتك عن عالمه الغامض، فما ان تطأ قدماك عتبة هذا العالم الذي اصطنعه هذا الطفل لينأى بنفسه عن عالم فرض عليه فرضا، حتى تتفاجأ برفضه مشاركتك عالمه وتعرفك على كنهه، هذا الكلام الذي تقوله عينا مصطفى الحذرتان بعدما عجز لسانه عن نطقها نتيجة صعوبة تواصله مع الاخرين هذا التواصل متى كان في افضل احواله نطق مصطفى بلغة متقطعة غير مفهومة ولا تخلو من اللجلجة· تحاول التودد اليه ولفحه بابتسامة دافئة علّ تواصلا ما يكسر حاجز الحذر والرهبة لديه، فتبوء محاولاتك جميعها بالفشل· تحاول والدة مصطفى ترجمة ما عجز ولدها عن التعبير عنه بلسانه بفعل فرط عصبيته وانفعاله وعقدة لسانه ولجلجته في اللغة، فتشرح الوالدة وضع ابنها: <يعاني من اكتئاب حاد منذ فترة بعيدة، يفتقد شهية الطعام، يرفض مقابلة او التحدث الى احد، وها هو الان يتلقى علاجا نفسيا ويتناول (فونلافاكسين)، وهو دواء مضاد للاكتئاب· وحول اسلوب العائلة المعتمد تربويا، ترفض الوالدة اختلاط ابنها مع الاخرين خاصة الزملاء، معللة سبب ذلك الى جهلها التام بالتربية التي يتلقاها هؤلاء، معتبرة انه صغير على اتخاذ القرارات التي من مصلحته، لافتة الى ان العائلة تتخذ الاصلح له، اذ انها اي العائلة <الاحرص على مصلحته منه هو نفسه>· وتتابع: <صحيح ان والده يقسو عليه الا ان ذلك بالطبع يصب في مصلحته>· هذا وتعتبر احدى قريبات العائلة ان تشديد هذه الاخيرة المفرط في تربية مصطفى هي التي اوصلت الطفل الى هذه المرحلة من المعاناة، ذاكرة الجمل والعبارات التي يتلقاها منذ صغره: <لا تفعل-عليك اطاعة الاوامر-لا تفقه شيئا-انظر الى ابناء عمك، انهم افضل منك-انك غبي لا تصلح للقيام بأي عمل····> اما احمد المقداد(مهنة حرة) فلم يتحول احترامه لوالديه والتماس طاعتهما بعد اعوامه الثلاث والاربعين، فلا يزال يدخل الى غرفة والده المقعد ويقبل يده، ثم يتوجه الى امه، يطبع قبلة على جبينها ويطلب منها الدعاء له بتيسير الاحوال· يقول احمد وهو متأسهل منذ عشر سنوات، ان والديه اختارا رفيقة دربه، وهو امتثل لمشيئتهما، وهو لا يتوانى عن طلب معونتهما ودعمهما حتى في قراراته الخاصة والشخصية الى الان، لان مشورتهما تساعده على اختيار القرارات الصائبة· ولهذا السبب انتقل عند تأهله الى بيته الجديد الملاصق لمنزل العائلة، يقول ويردف ضاحكا: <كي لا ينقطع التواصل>· يعلق المختص في علم النفس الاجتماعي الدكتور حسين بيطار على الحالات الثلاث، لافتا الى انها تشكل نماذج لتشدد الاهل في تربية ابنائهم· يشرح بيطار حالة بتول: <ان تشدد الاهل وتقييدهم المفرط لحركة ابنائهم نتيجة التزمت الديني هو ما دفع بتول الى الانعتاق والتفلت من هذه القيود عند اول فرصة تتاح لها للتحرر·> يقول بيطار ان اشباع الحاجات النفسية لا يقل اهمية عن تلك الفزيولوجية، لافتا الى ان اهمها هي الحاجة الى الاستقلال والحرية، مشددا على ان اشباع هذه الحاجة يصبح اكثر الحاحا لدى المراهقين في سن بتول لان العاطفة تكون متقدة وفي اوجها في هذه المرحلة· ويفسر تصرف بتول بمحاولة اشباع حاجتها الى الاستقلال من جهة والى العطف والحنان من جهة ثانية عبر الارتماء في علاقة عاطفية قد توقعها في شراك شخص غادر يستغلها، محذرا من مغبة ان تصبح عرضة للانحراف خاصة خلال هذه المرحلة من العمر الشديدة الخطورة، وبالتالي تتولد عن هذه التربية نتائج عكسية تضع الابناء في مهب الاخطار المحدقة· يقول بيطار ان الاهل يبدأون تعليم ابنائهم انماط الحياة وفقا لعاداتهم وقيمهم وذلك من اجل تهيئتهم لمواجهة المجتمع الاكبر، يولد الطفل وهو لا يعرف القيم فيباشر الاهل بتعليمه النظام بسبب حاجة الطفل الى هذا النظام لان الصالح يحقق شعور الامان لديه· ويعلق بيطار على حالة مصطفى فيرى انها النتيجة البديلة عن اشباع الحاجة الى الحرية والاستقلال والمتمثلة بالرضوخ والاذعان وكبت تلك الحاجة والاحجام عن اشباعها خوفا من النقد ولضعف الثقة بالنفس· وتفسر المختصة في الشؤون النفسية نادين فياض الحالة النفسية لمصطفى، فتقول انها ناتجة عن عدم القدرة على التكيف في المجتمع والهروب من مواجهته يسبقها صراع للتوفيق بين ما هو مطلوب منه وبين قدراته وامكاناته الفعلية، فيلجأ الى تعذيب نفسه والى التعبير اللاشعوري عن رفضه للحياة عبر الامتناع عن تناول الطعام· وتستعرض فياض المراحل السابقة لمرض الاكتئاب بدءًا من قيام الصراع مرورا بخيبة الامل ووصولا الى نشأة المرض، محذرة من ان عدم تداركه وعلاجه في الوقت المناسب من شأنه ان يتسبب بالانتحار· من جهة اخرى يعيد بيطار اسباب تشدد الاهل الى تغير العادات والتقاليد التي ورثها هؤلاء عن ابائهم واجدادهم والتي في نظرهم وحدها الصحيحة والمقبولة من المجتمع انطلاقا من ان ما يصلح للاجداد يصلح للابناء، ويرفضون في الوقت عينه التغيرات في التقاليد والاعراف التي تطاول المجتمع والتي ينشأ الاطفال في ظلها خارج دائرة الاسرة الضيقة حيث المجتمع الاكبر وبالتالي تنشأ فجوة تُدخل الطفل في صراع بين ما يتلقاه من تربية في كنف العائلة من جهة وبين ما تتطلبه مسايرة التطورات المستحدثة في العالم الخارجي، الامر الذي ينتج عنه تشدد وحماية مفرطة في التنشئة داخل الاسرة· ويرى بيطار ان سببا اخر وراء التشدد يعود الى طبع متأصل في الاهل بسبب حرمانهم هم انفسهم من العاطفة والحنان فيحاولون التعويض عن هذه الحاجة باسقاطها على الابناء· حالات الحرية المطلقة تقفل باب غرفتها وتشغل <زر التلفاز<وتبدأ بالتقليب في القنوات، فتمر ببرامج الاطفال، بالرسوم المتحركة فلا يروق لها مشاهدة اي من هذه البرامج· وتثبت احدى المحطات، ها قد بدأ برنامجها المفضل، تتسمر ابنة الست سنوات امام الشاشة تصرخ في وجه امها وتوصي اخواتها بالكف عن الكلام والتزام الصمت، كي تحلو لها المتابعة ولا يفوتها مشهد مهما كان تفصيليا· غادة مراد فتاة شغوفة بمشاهدة التلفاز وبالجلوس لـ <الشاتنغ> مع الزملاء والاصدقاء ذوي الجنسيات المتنوعة·تقول غادة انها تحب ايضا افلام الاكشن، فهي <ممتعة>، بينما برامج الاطفال تراها<مملة وغير مسلية>· والدة غادة تفتخر بوعي ابنتها كما تصفها <اسم الله تعرف كل شيء عن وسائل التكنولوجيا، بينما انا احتاج لدورات مكثفة لا تعلم القليل من هذه التقنيات>· تعتبر والدة غادة ان> الزمان تبدل، اطفال اليوم واعون جيدا اذ ليس من السهل الضحك عليهم>، تتابع: <اسمح لإبنتي بمشاهدة كل البرامج المحببة اليها···لا اريدها ان تتعقد وتصاب بمشاكل نفسية>· في منزل سامي ديب وضع اخر، تخترق اغنية فارس كرم <التنورة> سكون الليل، يتعالى صوت سامي من الغرفة مرافقا الفنان على وقع اغنيته تقطعه مخابرة اصدقائه لاعلامه بقدومهم، وبأنهم ينتظرونه في اسفل المبنى· وسريعا يعيد ترتيب هندامه، وعلى الدرج يلتقي بوالده يسترق منه علبة السجائر ويسرع<تشاو دادي> ليلة سامي الذي لم يتجاوز الثالثة عشر لا تختلف عن سابقاتها التي يمضيها في النوادي الليلية ويعود عند مطلع الفجر· حول تربيته يقول الوالد انه يعطي الحرية المطلقة لابنه لانه يريده ان يصبح رجلا، يعيش حياته ويستمتع بها، مضيفا: <هو لم يعد طفلا فليفعل ما يراه مناسبا>· يتطرق د·بيطار الى كلتي الحالتين، فيرى انهما تتشابهان في اعطاء الحرية المطلقة للاولاد، محذرا من ان خطورتها لا تقل شأنا عن التشدد· وينبه بيطار الى نتائج هذه التنشئة ويقول: خطورتها الكامنة في التحول الى العدوانية والانانية والجموح وما تستتبعه من خروج عن احترام الاخرين، وقد تؤدي ايضا الى انتهاك الاعراف والخروج عن التقاليد السائدة بما لا يتقبله المجتمع نتيجة التكيف الاجتماعي الخاطئ· ويضيف: <ان التهاون في تنفيذ الرغبات قد يخلق مشكلة عند الوصول الى رغبات غير قابلة للتحقيق فينهار هذا الشخص امام كل ازمة>· حالات الاعتدال محمد خليل فتى في الثامنة من عمره يذهب واخوه الصغير الى ملعب الكرة القريب من منزله، يصطحبه والده لزيارة الاصدقاء كل اسبوع، او ينظم افراد العائلة نزهة في الطبيعة· يقول محمد ان ثقته بنفسه كبيرة، وان اهله يكرسون اهتماما خاصا به وبإخوته الثلاثة وانه لا يعاني من مشاكل لدى تواصله مع الاخرين سواء في المدرسة او خارجها· يصف والد محمد علاقته بابنه<صديقي اسر له بكل مكنوناتي، وهو يبادلني الشعور ذاته>· ويعتبر الوالد ان من حق ابنه اختيار اصدقائه بنفسه، مضيفا: <طبعا يتم ذلك تحت رقابتنا غير المباشرة كي لا يشعر بالضغط>· اما مروى برو ففتاة لم تتجاوز العشرين عاما، ومع ذلك عندما تتحدث اليها يخيل اليك انها تعدت الخامسة والعشرين لإتزانها ووعيها وكلامها الناضج· تقول انها تمتلك جوالا، تتواصل مع اصدقائها وصديقاتها على النت بحرية تامة ولا تشعر بان والديها يقيدون من حركتها وحريتها، لا بل على العكس هم يسمحون بخروجها برفقة صديقاتها التي تزورهم ويزورونها ويقومان بتشجيعها على ذلك· من جهتها تتمسك والدة مروى بحرية ابنتها ولا تريد اشعارها بالنقص او ان تقارن نفسها بالفتيات الاخريات كما تقول: <طبعا هذا مع رقابتنا غير المباشرة>· يفضل د بيطار هذا النوع من التنشئة ويشجع على اعتماده، اذ يجد في هذا النظام التربوي النظام الصالح الذي يحقق الشعور بالطمانينة ويوضح حدود الخير والشر للابناء، مشددا على ان الاسرة المثالية هي تلك المسايرة لنمو الطفل والمهيأة لفرص نموه مرحلة مرحلة· ويقدم بيطار نصائح تربوية للاهل في تعاملهم مع ابنائهم منها: اشراك الولد في المناقشات واحترام ارائه، عدم توجيه الملاحظات اليه امام الاخرين على ان تتوجه هذه الملاحظات الى تصرف الولد وادائه وليس الى شخصه، الانصات اليه ليس شكليا بل باهتمام شديد، عدم مقارنته باحد، التركيز على احترام الوقت، بالاضافة الى تعزيز الوازع الديني· وانتهى الى خلاصة: <فلتكن التربية معتدلة، بعيدة عن الافراط والتفريط ، وعن التهاون والصرامة>·
|