تحقيقات
تاريخ العدد 19/01/2010 العدد 11496
«فرح العطاء» تجول على 22 سجناً لتوزيع كنزات وحاجيات
في سجن القبة ـ طرابلس... حيث حكايات السجينات العديدة
جعفر العطار
تجمع المتطوعون في باحة الملعب. البعض انشغل بترتيب الأمتعة التي ستنقل الى السجون، والآخر رتب توزيع الحافلات على المناطق، تبعاً للتقسيم الذي نظمته جمعية «فرح العطاء»، لزيارة 22 سجناً في لبنان، بغية مساعدة المساجين عبر تزويدهم بكنزات صوفية ومواد تنظيف.
انه يوم أحد. والساعة لم تتجاوز الثامنة صباحاً. سننطلق عند العاشرة والنصف. تقول مسؤولة النشاط كريستين أبي اللمع إنه «تشارك في هذا البرنامج 110 مدارس و8 جامعات. والزيارة هذه، تعد الزيارة السابعة عشرة».
يشبه مشهد المتجمهرين - المتطوعين، مشهد التحضير لنزهة. ابتسامات عريضة. حماسة مطلقة. ضحك. منهم من زار سجنا معينا ذات يوم، ومنهم من يتشوق لاكتشاف ما يسمع عنه ويراه على شاشة التلفزيون عن معاناة السجناء. ومنهم من يريد المساعدة ولو المعنوية.
الى ساحة السجن
يستقل المتطوعون حافلاتهم. وجهات السير ستكون متعددة ومغايرة: رومية، جبيل، زحلة، بعبدا، عاليه، بربر خازن، نبطية، جزين، طرابلس، بعلبك، زغرتا... أما وجهتنا فهي الى سجن القبة - طرابلس. سنتوجه الى هناك. سننتظر قليلاً في ساحة السجن، ريثما يسمح لنا بالدخول الى سجن النساء.
يطغى على المكان صمت ثقيل. يشبه سكون صباحات ايام الآحاد. الى يمين المدخل، شيد مبنى متوسط الحجم، يواجهه مبنى آخر بالحجم ذاته. السجن الأول خصص للرجال، أما الآخر، في طبيعة الحال، فهو للنساء. تظللهما أشجار مترامية على الأطراف. وعلى كل مدخل، يجلس، أو يقف، العناصر الأمنيون المولجون بحراسة السجن.
«الاكتشاف»، هو السبب الأول خلف هذه الزيارة برأي موريس مزرعاني. هدف تطمح اليه أيضاً السي هبر، الفتاة التي لم تزر أياً من السجون، على عكس لارا، التي زارت في العام الفائت سجن زحلة. لارا تقارن بين زحلة، حيث سجن النساء، وبين هذه الزنزانات. وتصف سجن زحلة بالتعيس.
داخل المكتب
ينكسر الصمت، ما ان تطأ أقدامنا مكتب رولا، المسؤولة في سجن النساء. نسيم ميداني ـ ناشط في الجمعية منذ 3 سنوات ـ منهمك بالأسئلة لتدوين الأجوبة على الاستمارة التي بحوزته. تقول رولا، السيدة الضحوكة، إن عدد الزنزانات التي تضم حالياً 153 سجينة 11 زنزانة. هناك 76 محكومة، و 63 موقوفة. تتفاوت جنسيات السجينات بين عربيات وأجنبيات. و طبعاً، تختلف التهم.
الشبان في الخارج، يحضّرون الأكياس التي تحوي مواد التنظيف، بغية نقلها الى مستودع سجن الرجال. وهم سيمكثون في الساحة، يدردشون مع عناصر السجن. ولن يحظوا بفرصة الدخول الى حرم السجن ومقابلة المساجين، لأن المساعدات تقتصر على مواد التنظيف، وعليه فانه لا ضرورة لتسليمهم المواد يداً بيد، كالكنزات التي ستسلم الى النساء في سجنهن.
تتحلق كل من فاتن ومابيل ولارا حول رولا. يسألنها أسئلة متعددة. ميداني يدّون. رولا تبتسم، وتجيب بصراحة. على عتبة باب المكتب، تقف فتاة فيليبنية الجنسية. انها كارلا. «المعتّرة متهمة بسرقة مليون دولار» تقول رولا. تعدّل كارلا في الرقم: «نصف مليون» تقولها بالانكليزية، لافتة الى أنه سرق من احدى الشقق في العمارة التي يعمل زوجها حاجباً فيها مبلغ نصف مليون دولار, واتهم صاحب المبلغ كلا من كارلا وزوجها.
عن الحياة في السجن، تردف كارلا أنها جيدة. تبتسم تزامناً مع تشابك نظرها بنظر رولا. يقبع زوجها في رومية. برغم يسر العيش هنا كما تصفه، تعبّر الفتاة عن حاجتها للخروج. هي تقول إنها تريد تنشق هواء حر. الحرية. تقولها بالانكليزية.
جولة في زنزانات الأجنبيات
كارلا الهادئة الضحوكة، تتحول الى «ناظرة» مدرسة. تصرخ في السجينات: «ما حدن برّا». تتولى «الناظرة» مهمة الاستطلاع، فتمتشي أمامنا، «معبدة» الطريق على طريقتها الخاصة. تتوزع الزنزانات الاحدى عشرة على الأجنحة المتعددة. ويتطلب الدخول الى الزنزانة، المرور بردهة طويلة يعلوها سقف عال.
تحمل الفتيات الكنزات بأكياس سوداء، وتطلب رولا بدء التوزيع على الأجنبيات، لأنهن وحيدات، أما العربيات فينعمن بزيارات مختلفة، من أهل وأصدقاء وجمعيات كثيرة. تهم الأجانب يغلب عليها دخول البلاد خلسة، وبعضهن متهم بتسهيل الدعارة. أما العرب، فتختلف التهم الموجهة اليهن، بين قتل، وسرقة، وتعاط أو اتجار بالمخدرات.
تجلس سيدة خمسينية على حافة الدرج. ترمقنا بنظرة غريبة. تنفث السيجارة بهدوء. تلتفت اليها رولا وتطلب منها الدخول الى زنزانتها. لا تكترث السيدة، فتخبرها رولا أن «الرائد هنا». تعود السيدة الى زنزانتها. لا تزال الصورة ضبابية الى حد ما.
يفتح باب الزنزانة الأولى، مولداً صوتاً أليفاً: احتكاك القفل بالباب الحديدي. تتحرك الحواس كلها. تقول احداهن انها رائحة «Cheese» (جبنة).
يزول الضباب عن الصورة. فتبدو أوضح، بعد الدخول الى الزنزانة. يحفل الزائر بالتقاط صور بصرية غريبة، تدل على مهجع غريب: جدران سميكة متسخة، تذيلها رسومات غريبة حول الأسرّة المتلاصقة بعضها ببعض. سحنات حزينة، وأخرى شامخة لا تريد التحدث. زمرة في غرفة صغيرة. رائحة غريبة. الرائحة لا تلتقط بالصور.
سحب دخان السجائر تسبح في الزنزانة. ألوان البشرة هنا متفاوتة، بين سوداء وحنطية وبيضاء كالحليب. الفتيات يوزعن الكنزات على السجينات. لا تقبل الشابة الأوكرانية اقتناء أي من الكنزات التي توزع. ترمقنا بنظرة غريبة من أعلى عليائها، حيث تستلقي متربعة على سريرها.
ترفض الشابة الأوكرانية الحديث، ربما لأنها لا تتقن سوى لغتها الأم، تماماً كصديقتها الروسية. يداهمنا الوقت المنوط بتوزيع الكنزات على السجينات. يخيم السكون على الزنزانة، وحده حديث «النظرات» يدور بيننا. كأنهن يسألن: «من أنتم؟ هل ستخرجوننا من هنا؟». لا جواب. ميداني يسأل عن الأسماء، ويفند السجينات اللواتي لم يترافع عنهن محام.
تخف رعشة الأوصال رويداً رويدا، وحل عقدة لسان الزائر لحظة تآلفه مع المشهد. في الغرفة المجاورة، يبدو المشهد مشابهاً، يتخلله اختلاف بسيط يتجلى بجدران هذه الغرفة التي فيها مراوح كهربائية. التلفاز موجود، تماماً كبقية الزنزانات. وسط السجينات ذوات البشرة السمراء، ترقد سيدة محجبة. انها السيدة التي التقيناها على حافة الدرج.
السيدة الخمسينية اسمها ابتسام. في السجن منذ 15 عاماً، قضت 13 عاماً في زنزانات العربيات. وهي تكمل عامها الثاني هنا، مع الأجنبيات، اللواتي تتفاوت جنسياتهن بين أثيوبيا وسريلانكا والكاميرون، سبب وجودها في هذه الزنزانة، هو - على حد وصفها - بمثابة كسر الروتين.
ماذا عن سبب وجودها في السجن أصلاً؟ تقول ابتسام إنها قتلت زوجها منذ 15 عاماً. لماذا؟ «الغيرة هي السبب يا ابني»، تقولها بحسرة. سؤال «كيف» مستبعد، لأنه قاس أليم. عندك أولاد؟ نعم. متى كانت آخر مرة التقيتهم؟ «منذ 8 سنوات» تجيب ابتسام. يستمر توزيع الثياب. ابتسام تبكي. تقول إنها ندمت على فعلتها. تطلب فتاة أثيوبية كنزة ملونة. الجلبة أقوى. ابتسام تبكي. لا أحد ينتبه. تبكي بصمت.
ما يسمى «سجن العربيات»
تزين صورة السيد المسيح جدار المكتبة، في الردهة الفاصلة بين زنزانات الأجنبيات وزنزانات «العربيات». تقول رولا إن المكتبة «ديكور»، لا أحد يقرأ. يجاور المكتبة الأنيقة باب حديدي، يوجد خلف الباب غرفة تستوعب أجهزة كومبيوتر، وهي تستخدم في بعض الأحيان لتأهيل السجينات على كيفية استخدامه.
عادة، تخرج السجينات من الزنزانات الى المطبخ أو للمشي في الباحة الصغيرة المخصصة لهن. لكن، آيام الآحاد تبقى السجينة في مخدعها. تثرثر مع زميلاتها، تفكر، تشاهد التلفاز، تعد الأيام، تنتظر المحاكمة، وأشياء كثيرة.
تطلب رولا من السجينات، في الجناح الذي يسمى «جناح العربيات»، أن يتسترن. وهي تقصد أن تضع المحجبات الحجاب على رؤوسهن. الرائحة هنا مغايرة ربما لأن محتويات الطعام العربي، واللبناني، مختلفة عن الأجنبي.. أو لأننا لم نألفها.
تمرر صباح خرزات السبحة بين اصابعها. تبسمل، وتبتسم لحظة سؤالها: «كفالة؟». صباح تسأل ان كنا سندفع الكفالة التي تبلغ أربعة ملايين ونصف المليون ليرة لبنانية. السيدة السورية، اتهمت بسرقة 12 مليون ليرة من الرجل الذي كانت تعمل عنده، وهي خرجت في الدعوى الأولى بسند كفالة، أما الآن، فلا تعرف مصيرها. تقول انها بريئة.
في هذه الزنزانة، من أراد أيضاً كسر الروتين. ثلاث فتيات أثيوبيات، قررن المكوث مع العربيات. هن لا يتحدثن. بجوارهن، تقف امرأة شقراء. نسأل رولا عن تهمتها، فتجيبنا: «تسهيل دعارة»، تهز مريم برأسها وتصحح: «كلا.. كلا، تشبيه دعارة». وهي تعني، أنه شبّه بها أنها تمارس الدعارة. والكل، حتى أولادها - كما تقول - يدركون حقيقة الأمر، أي انها بريئة.
المشهد نفسه في الزنزانة المجاورة. تقف سيدة خمسينية وقفة استقبال. هي تعلم بأننا سنسألها عن سبب وجودها هنا، وان كانت مرتاحة أم لا. الجواب عن السؤال الثاني، يشبه أجوبة الجميع: «الحياة في هذا السجن، نسبة للسجون الأخرى جيدة، لكننا نريد الحرية».
ماذا عن السؤال الأول؟ الجواب: قتل. تقولها السيدة كأنها تلقي التحية. من قتلت؟ «زوجي». لماذا؟ «هيك.. هواية. فيها شي؟». لحظة صمت، ثم تنفجر ضاحكة. «تخيل، كلا، قتلته بالخطأ وليس عمداً» تقول مبتسمة. تلفت الى أن زوجها كان يضربها دائماً، وفي احد الأيام، حاولت ابعاده عنها فدفعته الى الوراء وسقط ميتاً. تقول السيدة المسنة ان أولادها شاهدوا ما حصل، وهي قضت 5 سنوات، وبقي عندها خمس سنوات أخرى، ستقضيها في السجن.
توزع الفتيات بعض الكنزات. على احد الأسرة، تجلس فتاتان. هما شقيقتان، وقد وصلتا الى هنا منذ يوم واحد، بعد مكوثهما في سجن بعبدا مدة 13 يوماً، عقب القاء القبض عليهما ليلة رأس السنة، واتهامهما بتدخين سيجارة الحشيش.
تلمع عينا (أ) لحظة سرد قصتها. تقول إنها لا تدخن أصلاً، وعندما انتهى التقرير الطبي، تبين أنها كانت برفقة ناس دخنوا الحشيش، لأن الدخان دخل رئتيها. تقول ان شقيقتها تدخن السيجارة العادية. كم ستبقيان هنا؟ لا تدري (أ) وهي، لن تخرج الى أهلها، لأنهم حضّروا لها الكفن لدفنها، وغسل العار الذي جلبته لهم. ستغادر، الى مكان ما.
سجن الرجال
الدخول الى زنزانات الرجال ممنوع. ندخل، مخفورين برجال الأمن وأحد السجناء، الى حرم السجن. يقول أحدهم انه يوجد في احدى الزنزانات رجل متزوج من سيدة مقيمة في سجن النساء، وهو لا ينفك، أي السجين، بارسال الرسائل لها. و ي تبادله بالرد عليها. يضحك ويقول: «حب في الزنزانة».
يقبع في سجن الرجال 499 سجينا، ويقسم السجن الى طابق علوي وآخر سفلي، في كل منهما ثماني زنزانات فسيحة. يوجد في الطابق الأول صيدلية، تجاورها غرفة للحلاقة، ويتولى مهام الحلاقة فيها بعض السجناء، باشراف من سجانيهم.
يشرح السجين المرافق لنا، وهو رئيس الخدم، عن محتويات السجن، كأنه المهندس المعماري للمبنى. هو يعرف كل شاردة وواردة هنا. يقول مسؤوله انه منضبط، رغم أنه اتهم بمحاولة قتل. في الطابق العلوي، خصصت غرفة للصلاة، وهي تستقبل كل الطوائف.
لا يحفل سجن الرجال بأسرّة، بل يتمدد السجناء على الفرش الاسفنجية. تتوزع المناشف على جدران الزنزانة، لتشكل ستائر ملونة الشكل. يستغرب المرء نظافة الجدران والبلاط من جهة، وشاشة التلفاز الحديثة الطراز(LCD) من جهة ثانية. «انها زنزانة نموذجية» يردف السجان.
كيف هذا؟ يجيب: «لقد امتنع سجناء هذه الزنزانة عن التدخين لمدة ثلاثة أشهر، وبثمن علب السجائر التي وفروا دفع ثمنها، ابتاعوا الشاشة وطلوا الجدران». هنيهات ويعلق أحد السجناء: «ان شاء الله منوقفها (السيجارة) على طول يا سيدنا».
الحرية. كلمة نسمعها كثيراً. نتجرعها حتى السأم يوماً بيوم، دون الاحساس بها. نغادر سجن القبة ـ طرابلس. نرمق الساحة بنظرة أخيرة من كوة الباب الصغيرة. نترك العالم المختلف، حيث توجد قصص وحكايا كثيرة. لا نبرئ أحداً، ولا ندين أحداً. نخرج الى الحرية.
No comments:
Post a Comment