قضية المفقودين: حماية المقابر الجماعية تمهيداً لنبشها
إيفا الشوفي
أغلق اللبنانيون عام 1990 صفحات الحرب من دون أي محاسبة؛ فجأةً «عفا الله عمّا مضى». إلاّ أنهم نسوا في تلك الصفحات 17000 مفقود. علق أهالي هؤلاء في تلك الصفحات أيضاً وما زالوا حتى اليوم، لكن الدولة لا تأبه، همها الوحيد ألا تعيد فتح ملفات الحرب «خوفاً من إعادة إيقاظ الفتنة»، كأن الفتنة نامت مذاك الوقت لتعود للاستيقاظ. الدولة لا تريد فتح ملفات مسؤوليها الحاليين: مجرمي الحرب.
هناك قادة ميلشيات يعلمون ماذا فعلوا في الحرب. يعلمون من اعتقلوا وإلى أين أرسلوهم. يعلمون من قتلوا وأين دفنوهم، لكنهم حتى اليوم، وبعد مرور 24 عاما على انتهاء الحرب الأهلية، لا يتكلمون ولا يُفصحون، تاركين آلاف الأمهات والأبناء والزوجات والآباء يعيشون حالة انتظارٍ قاتلة: انتظار عائد أو انتظار جثة. قد تكون حالة الانتظار نفسها أصعب ما في الأمر، وخصوصاً أن المدة طالت جداً، وبوادر الانفراج تتضاءل يوماً بعد يوم. لسان حال الأحباء يقول «فليعودوا أحياء أم أمواتا، لكن دعوهم يعودوا، وانتشلونا من الحيرة المقلقة التي وضعتمونا فيها».
جهود الأهالي والجمعيات المدنية لا تزال مستمرة من أجل تحريك الملف، كان آخرها المشروع الذي أطلقته جمعية «لنعمل من أجل المفقودين»، بالتعاون مع مؤسسة «أبعاد» و»المفكرة القانونية». يرمي المشروع إلى إعلام وإشراك أسر المفقودين والمخفيين قسراً في المطالبة بحقها في معرفة مصير أحبائها، وإيصال صوتها إلى أصحاب القرار. يرتكز المشروع على ثلاثة أسس: أولاً الوصول إلى أكبر عدد من الأهالي وإشراكهم في الضغط على المعنيين، إضافةً إلى إشراك الجيل الجديد من عائلات المفقودين للمحافظة على استمرارية النضال وعدم فقدان المعلومات الأساسية نتيجة موت بعض الأهالي. ثانياً، تُعد عملية جمع المعلومات أحد أبرز الأمور التي يجب التنبّه إليها، لذلك ستتولّى «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» جمع معلومات عن الأشخاص الذين فُقدوا خلال الحرب ومعلومات من الشهود والجناة عن المفقودين بغية حفظها في قاعدة بيانات خاصة وتسليمها لاحقاً إلى الجهة المسؤولة عن كشف مصير المفقودين. أمّا جمعية «لنعمل من أجل المفقودين»، فستطلق مشروع بحث لجمع معلومات تساعد على تحديد مواقع المقابر الفردية والجماعية وتحليلها وتطوير فرضيات تتعلّق بهوية الضحايا المحتملة إذا عُثر على رفاتهم عن طريق التنقيب. وأخيراً تتجه الجمعيات إلى إدخال المكوّن القضائي كجزء أساسي من هذا المشروع، حيث سيبرز التقاضي الاستراتيجي عبر اللجوء إلى المحاكم للاعتراف بحق المعرفة من جهة، وتقديم المزيد من الدعاوى أمام المحاكم المختصة لتحديد مواقع المقابر الجماعية والفردية وحماية المقابر المعروفة من أجل نبشها مستقبلاً. هذا الجزء ستنفذه على نحو أساسي «المفكرة القانونية» بالتعاون مع «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان» و»سوليد». يوضح المحامي نزار صاغية أنه «حتى اليوم رُفعت 5 دعاوى لحماية المقابر الجماعية، وهناك دعويان مميزتان ستظهران خلال الأسابيع المقبلة». يرى صاغية أنّ النضال في هذه القضية حققّ نجاحاً على صعيد المفاهيم الحقوقية، إذ جرى الاعتراف بحق الأهالي في المعرفة من خلال القرار الذي أصدره مجلس شورى الدولة في 4 آذار 2014. إلاّ أنّه يجب أن ننتقل من الإطار المفاهيمي إلى التطبيق على أرض الواقع، عبر تحقيق المعرفة على نحو كامل، لذلك فالمعركة الحقيقية اليوم هي إرغام الحكومة على تنفيذ القرار القضائي.
معظم الذين فُقدوا هم رجال، ما يعني أن النساء هن اللواتي يعشن على نحو أساسي معاناة الانتظار، وما يترتب عليهنّ من مشاكل. يحمل هذا الأمر في طياته أوجها عديدة من العنف الاجتماعي والاقتصادي والنفسي ضد النساء، وتحوّلا قسريا في الأدوار الاجتماعية المطلوبة، وفق ما تقوله مديرة مؤسسة «أبعاد» غيدا عناني. لذلك ستقدّم المؤسسة الدعم النفسي والاجتماعي إلى هؤلاء النساء. وهنا يُعيد المشروع التذكير بأحد الاقتراحات التي قُدّمت من أجل إصدار وثيقة «شخص مفقود»، تتمتع بالفعاليّة القانونية نفسها التي تتمتّع بها وثيقة الوفاة. تُعدّ هذه الوثيقة مهمّة للنساء لتسهيل المعاملات القانونية والإدارية، فمن دون إثبات أن الزوج في عداد المفقودين، تواجه الزوجة صعوبات في الوصول إلى حسابات زوجها المصرفية، والحصول على أوراق ثبوتية للأطفال... يبقى الخيار الوحيد أمامها طلب وثيقة وفاة، وهو أمر صعب جداً على المستوى النفسي، لأنها تشعر بأنها تتخلّى عن أمل معرفة مصير زوجها. عمليات الخطف التي حصلت أخيراً أعادت إلى الأهالي مشاهد حاولوا نسيانها. ينبّهنا هذا إلى أن الصفحة لا تزال مفتوحة، وقسوة الحرب التي عشناها لم تعلمنا شيئا، فنعيد تكرار التجربة.
No comments:
Post a Comment