لبنانيون يديرون ملف النازحين: ضرب وطرد
مادونا سمعان
في بعض المناطق، في بعض الأحياء وفي عدد من الأبنية والمنازل لا يقلّ ما يعاني منه السوريون عما يعانيه مواطنون من العراق ولبنان وسوريا نفسها على أيدي عناصر «داعش». شيء ما يشي بأن «حفلة الجنون» وصلت إلى ذروتها في المنطقة وأن المنطق «تغرّب» عنها نحو بلاد مجهولة.
نزح السوريون إلى لبنان على أثر الحرب في بلادهم. فتح لبنان أبوابه تبعاً للأسس والمبادئ الإنسانية. تضاعف عدد النازحين ومعه الأعباء الملقاة على عاتق البلد الصغير. بات على اللبناني تقاسم كل موارد بلده، التي لا تصله كاملة في الأصل، مع ضيفه السوري. لكنّه أيضاً استغله في مواقف مختلفة، في العمل حين استبدله بموظفين لبنانيين لدفع راتب منخفض، في الأملاك الخاصة حين أُخرج لبنانيون لإسكان عشرات السوريين بإيجارات مرتفعة أو بإسكانهم في ممتلكات غير معدّة للسكن أصلاً... وغيرها الكثير من المواقف.
هكذا انطلقت الحرب النفسية على اللبناني والسوري على حدّ سواء يمارسانها بعضهما بحق الآخر. وقد أسس لها تقاعس الدولة عن الإمساك بملف النزوح وفق خطة واضحة منذ أن وطأت قدم أول نازح البلد الصغير المنهك.
بعد مرور أكثر من سنتين على هذا النزوح، رجحت كفّة التعاطف صوب اللبناني على أساس أنه يتقاسم لقمة العيش وخيرات بلاده، ويستضيف ما يوازي نحو 20 في المئة من عدد سكانه، وأن السوري ما عاد يلجأ إلى لبنان بسبب الحرب في بلاده بقدر ما يقطن فيه لأسباب اقتصادية. وهي في الأصل حالة فرضها غياب الدولة والتخطيط الحكومي عن إدارة الملف، وتقاعس الدول، أصحاب القرار عن إيجاد حلول تقي شرّ النزوح عن السوريين كما عن اللبنانيين.
لكن اليوم، تحوّل اللبناني إلى قفص الاتهام مع حالات التعدي التي تطال النازحين السوريين في مختلف المناطق. وهي إذ استهلّت بكلام عنصري بدأت تتحول إلى جرائم برائحة الدماء، لن تحمد عقباها إذا لم يتم إيقافها عند حدّ.
دماء في المرأب
لم يجرؤ أحد من سكان المبنى القاطن في أعالي المتن على الاقتراب أو التدخّل لفض الإشكال الذي وقع بين أحد اللبنانيين وناطور المبنى السوري، أو بكلام أدق لوقف الجريمة التي نكّلت بعائلة أكبر أطفالها عمره ثلاث سنوات.
يروي رئيس لجنة المبنى الذي تحفظ عن ذكر اسمه أنه استعان بكهربائي لإصلاح أعطال في الأقسام المشتركة، وطلب من الناطور غيث مرافقته ومساعدته.
بعد نحو أربع ساعات تلقى اتصالا من زوجته تخبره فيه أن غيث مضرج بالدماء وقد رحل وزوجته وولديه وهو بحال يرثى لها. عاين مكان الحادثة أي المرأب فإذا بالدماء تملأ المكان وقد غطت كنبة وجدراناً ومرآة علّقتها زوجة الناطور على مدخل غرفتهم. كان رئيس اللجنة يعلم ان للناطور صديقا يسكن على بعد شارعين فقصده ليجد العائلة المنكوبة بحالة هستيرية بينما يتلقى غيث إسعافات أولية على يد صديقه.
لم يرض غيث نقله إلى مستوصف أو أي مستشفى قال «سأتعرّض إلى سين وجيم قد ينتهي بالتحقيق معي وأنا الحلقة الأضعف في هذه القصّة». روى أنه بينما كان يساعد الكهربائي سأله عن أوضاع قريته في سوريا فأجابه أنا بحال سيئة، وقد تحدثا عن الأوضاع الاقتصادية في لبنان وسوريا وعن أحوال النزوح، بهدوء متحاورين. فجأة سأله الكهربائي «انت من تؤيد المعارضة ام النظام»، أجاب غيث أنه يؤيد المعارضة ولكن ليس «داعش»، ثم شتم نظام الأسد على اعتبار أنه «سبب التردي الاقتصادي والحرب». لم ينه المواطن السوري الذي ظنّ أنه في بلد الحريات والديموقراطية كلمته حتى انهال عليه محاوره بالشتم حتى ملأ صراخه الحيّ بكامله. كان يقول بحسب غيث «بشار تاج راسك وأنتم شعب ما بيمشي الا بالقمع». وحوّل صراخه إلى لكم وضرب وبين اللكمة والضربة كان يقول «خسرت ابنتي وظيفتها لتحل مكانها سورية واللي من أمثالك بيبعطوا ليل نهار ليمتهنوا أشغالنا بنصف السعر والأكثر تريدون التعاطي في السياسة. تصمتون في سوريا وترفعون الصوت في لبنان. أنتم كنتم وما زلتم أنجاسا ذوي أفواه مفتوحة...».
لم يفهم غيث لماذا تحول الحديث العام إلى إشكال فردي انتهى باستعانة اللبناني، بعدد من أفراد أسرته للتعدي على النازح. لم يتوانوا عن ضربه أمام زوجته وابنه وقد خرّبوا غرفتهم وأحرقوا ما يملكون من ثياب وأغراض خاصة، فيما سالت الدماء في منحدرات المرأب بعدما لطّخت جدران الغرفة الصغيرة.
لم يجرؤ أحد من سكان الحي على التدخل لإنقاذ غيث وعائلته، اكتفوا بالاستماع إلى أصواتهم وقد اختفوا خلف ستائر شبابيكهم وشرفاتهم لاستراق النظر. تقول إحدى الجارات «خفنا كثيراً كانوا نحو 20 شاباً من تلك العائلة الشهيرة. لم نتدخل لأننا كنا من دون شكّ سنتحول إلى ضحايا».
لم تُستدع القوى الأمنية للبت في تلك الجريمة، رحل الشبان عن المكان، نامت عائلة غيث في غرفة الصديق الضيّقة وهو ما زال يبحث عن عمل.
غسل أهل المبنى الدماء لكنهم لم يغسلوا العار عن إنسانيتهم. هم لم يشتكوا ولم يواجهوا وحوشاً انقضت على فريسة تعاني من الظلم والقمع والاضطهاد وحتى الذلّ تماماً مثل المعتدين عليها. صمتوا عن شرّ قد ينقلب عليهم إذا ما أراد المقموع أن ينقلب على قامعيه.
لا سوريين في الحيّ الراقي
منذ نحو أسبوع التأم أهل حيّ في منطقة راقية وأصدروا قراراً بطرد السوريين الذين يقطنون في الحيّ والمحيط، حتى من تم الاستعانة به كناطور أو كبستاني أو سائق... وإعلان المنطقة «خالية من السوريين».
تروي إحدى الناشطات الاجتماعيات التي حضرت الاجتماع كونها واحدة من سكان الحيّ أن امرأة استهلت اللقاء بالقول «ما تواخذوني لكن نحن يمكننا تكبّد أجر ناطور وسائق وبستاني لبناني وعاملة لبنانية أو فليبينية فلماذا المخاطرة وتوظيف سوريين»، وتابعت «لا يمكن إمهالهم أكثر من يوم واحد لإخلاء المنطقة كي لا نفسح في المجال أمامهم للتخطيط لسرقات».
اعترض أحد المجتمعين كون البستاني الذي وظّفه «سورياً، لكن بارع في المحافظة على الحدائق المحيطة بمنزله والاهتمام بالأشجار التي زرعها من حولها». حاول استثناءه من اللائحة لكن غالبية المجتمعين كانوا حازمين في مسألة جعل الحي ومحيطه «free of Syrians» أي خالياً من السوريين.
احتجت الناشطة ابنة الحي، واعترضت على الكلام العنصري الذي يتم التداول به. عللت بأن هناك عائلات وأولاداً لا يمكن رميهم في الشارع، كما لا يمكن اتهامهم بالتخطيط لسرقات و«من بينهم بالتأكيد شرفاء». علا صوتها لكنه لم يطغَ على الكلام السائد الذي طرح المسألة على التصويت احتراماً لمبدأ الديموقراطية، فكانت مجموعة ضدّ فرد واحد.
بعد يوم على الاجتماع تمت عملية الترحيل، هُدّد من اعترض منهم ومن خاف على مصير أولاده. تقول الناشطة إن من هددهم هو «تاجر شهير يسرق زبائنه في الشاردة والواردة». تمّ تطهير المنطقة من نازحيها وبقيت الأبنية من دون نواطير حتى إشعار آخر. ضحكت الناشطة خلال الاجتماع حين قال أحدهم إنه باستخدام السوريين كنواطير «نكون نطبّق المثل القائل حاميها حراميها» فردّت عليه «يا حبيبي الدولة اللبنانية كلها حاميها حراميها».
حصلت الناشطة على أرقام عدد ممن نزحوا عن الحي وتابعت مصيرهم، فوجدت ان منهم من يقطن عند أصدقاء لا يمهلونهم إلا وقتاً قصيراً للبحث عن مكان إقامة جديد. أما البستاني الذي كاد أن يحصل على «عفو خاص»، فقد «بات وعائلته المؤلفة من زوجة وثلاثة أطفال في العراء، قبل أن يقصد مخيماً في البقاع يسكن فيه أقارب له» كما أشارت الناشطة.
صمتت الحكومة اللبنانية والشعب اللبناني عن النزوح لمدة سنتين، لم يضعوا أطراً له ولم يحتجوا على انفلات الملف. وفجأة وجدوا في النازحين كيس الرمل الذي يحلو ركله وضربه محملينهم جرائم «داعش» والداعشيين. غضت الحكومة النظر عن ملف مهم، فكلف اللبنانيون أنفسهم إدارته كما يحلو لهم... لكن أحداً لا يضمن النتيجة؟
No comments:
Post a Comment