ترحيل أطفال العمال المهاجرين
في بلادنا أنظمةٌ متخلّفة تحكم الضعفاء. استقواءٌ مستمر يحصل على فئات مقهورة. يدمّرها، يمنعها من الحب ومن الحياة. تتصدّر نظام الكفالة لائحة التخلّف هذه. العمال الأجانب ذوو الدخل الضعيف ليسوا بشراً في عرف هذا النظام. حفنة من المال تجعلنا نظن أنه يمكننا أن نسيطر على حياتهم، وقد يصل الأمر بالبعض إلى اعتبارهم آلات. في بلادنا، ممنوعٌ على هؤلاء الحب وممنوعٌ عليهنّ الإنجاب. هم وُلدوا ليعملوا في تنظيف المنازل، فكيف يجرؤون على الحب؟
إيفا الشوفي
تجهش رينوكا بالبكاء ما إن نسألها عن ابنتها سوزانا. 20 يوماً تفصلها عن تحديد مصير عائلتها المهددّة بالتشتّت. خوفٌ دائم يسيطر عليها بعد قرار السلطات اللبنانية الأخير ترحيل أطفال العمال الوافدين المولودين في لبنان. منذ أكثر من 17 عاماً، أتت رينوكا وزوجها إلى لبنان للعمل. الحب الذي جمع الاثنان أثمر ابنةً جميلة سمّياها سوزانا. تتحدث الفتاة اللغة العربية بطلاقة، فهي تتعلم في مدرسة لبنانية منذ أن كان عمرها 3 سنوات، وجميع أصدقائها لبنانيون. لغتها السيريلنكية تكاد تكون معدومة، كما أنها زارت بلدها مرتين فقط وتفضّل لبنان، الذي لا تعرف سواه. الشرط الذي وضعته السلطات اللبنانية لتجديد إقامة الأم هو ترحيل الابنة. لكن الابنة ليس لديها أحد في سيريلنكا، كما أن الأم لن تنفصل عنها حتّى لو كانت حاجتها إلى العمل ماسّة، وخصوصاً بعدما بنت حياتها بشكل كامل في هذا البلد.
تحتاج رينوكا إلى تجديد إقامة ابنتها لكي تستطيع تسجيلها في المدرسة، إلا أن الأمن العام يرفض تجديد إقامة الفتاة لأنه لا يوجد مدارس اليوم! إشكالية لا يمكن أن تحصل سوى في لبنان. «أنا بموت بلا بنتي، وما فينا نعيش غير بلبنان. حياتنا هون»، تقول رينوكا غارقة في دموعها، ليتضح أن هذا الإجراء يؤذي فعلاً العاملين الأجانب ويضعهم أمام خيارات غير متوقعة ومدمّرة.
ترفض عاملة أخرى ذكر اسمها، تقول «بعد أسبوع، عليّ أن أذهب لتجديد إقامتي. وإذا علموا بأنني تحدثت لأحد سيعرقلون الأمر أكثر». تعلم هذه العاملة جيداً كيف تجري الأمور في لبنان، فهي مقيمة هنا منذ 22 عاماً ولديها صبي وفتاة. تخاف من المستقبل الذي ينتظرها بعد أسبوع؛ خوفها الأكبر هو من رفض الأمن العام تجديد إقامة العائلة واعتقالهم في سجن العدلية. عودتها إلى بلدها مستحيلة «أقيم في لبنان منذ 22 عاما، فكيف سأعود؟ عملي هنا وحياة أولادي هنا». خططت هذه العاملة جيداً لمستقبل أطفالها قبل أن تفاجأ بهذا القرار «أريدهم أن ينهوا دراستهم. لا أريدهم أن يعانوا مثلي وينتهوا في تنظيف البيوت. أنا من عائلة فقيرة. أهلي لم يعلموني ولا أريد لأولادي هذا المصير. ابني أنهى شهادته المتوسطة هنا، فكيف سأوقفه فجأة عن دراسته؟». المدة الطويلة التي قضتها في لبنان جعلتها تكتشف تفكير الكثير من الناس هنا «يريدوننا أن نعمل بـ 150 دولاراً، أن نبقى مدة أطول هنا كي نتعلم العربية بشكل جيد لتسهيل الأمور عليهم ونصبح أفضل بالعمل، لكنهم لا يريدون أن يكون لدينا حياة خارج العمل. يريدون عملنا ويرفضون أولادنا وحياتنا!».
أقيم في لبنان
منذ 22 عاماً، فكيف سأعود؟ عملي هنا وحياة أولادي هنا
آديل، أوليفيا، مالا... والكثير غيرهن يعانين من هلع جراء هذا القرار التعسفي، يهدد ما بنينه خلال سنوات عمرهن. ينص هذا القرار على منع تجديد تصاريح الإقامة للعمال الوافدين في مهن منخفضة الأجر، الذين أنجبوا أطفالاً في لبنان وكذلك لأطفالهم، ما يعني ترحيلهم. سيؤدي هذا القرار إلى خيارين: إمّا تشتيت العائلات وفصل الأولاد عن أهلهم. وإمّا حرمان العمال من مصدر رزقهم لمجرد أنهم أنجبوا أطفالاً. يقول البيان الذي صدر عن عدد من المنظمات الحقوقية المنددة بهذا الإجراء إن الأمن العام قال لإحدى السيدات «الإقامات لمن يأتون هنا للعمل وليس لإنجاب الأطفال». لكن، ماذا سيكون موقف السلطات اللبنانية إذا ارتأت إحدى دول الاغتراب التي يلجأ إليها اللبنانيون للعمل أن ترحّل أولادهم أو أن تتحكم بحقهم في بناء أسرة؟
يعتبر نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة «هيومن رايتس ووتش» نديم الحوري أن «هذا الإجراء يستهدف العمال ضمن الفئتين الثالثة والرابعة، أي العاملات المنزليات والعاملين في قطاع الزراعة والصناعة ذوي الدخل الضعيف». بموجب أحكام الإقامة اللبنانية، لا يسمح لفئات معينة من الوافدين ذوي الأجر المنخفض، والعاملات المنزليات بوجه خاص، بكفالة إقامة أزواجهن أو أطفالهن. لكن كان يمكن في الماضي لأطفال الوافدات المولودين في لبنان التقدم بطلب إقامة لمدة عام حتى السن الرابعة، ثم طلب إقامة إذا التحقوا بالمدارس. يوضح الحوري أن «القرار اتخذ بداية السنة وبدأ تطبيقه في أيار حين لاحظنا أن أشخاصاً يقيمون منذ فترة طويلة في لبنان اعتادوا تجديد إقامتهم بشكل طبيعي، لكن هذه السنة رفضت إقاماتهم وأعطوهم مهلة للرحيل». لا يوجد أي إعلان رسمي عن سبب هذا الإجراء، إلا أن الحديث الذي تتناقله الجمعيات هو أن الأمن العام يريد خفض عدد الأجانب في لبنان. إلا أن الحوري يذهب أبعد من ذلك «نظام الكفالة يُجبر العامل على العيش في منزل الكفيل، لكن ما يحصل عملياً هو أن الكثير من العمال لم يعودوا يلتزمون بذلك بسبب الزواج والأطفال أو لأي سبب آخر. قد يكون الهدف من هذا الإجراء الحد من هذا «الخرق» لنظام الكفالة وإعادة إجبار العامل على السكن في منزل الكفيل».
يوضح المسؤول الإعلامي في المديرية العامة للأمن العام العميد جوزيف عبيد أن «هذا الإجراء يطبّق على الأشخاص المخالفين لنظام الإقامة. هل يمكن ترحيل الأم وإبقاء الأولاد في حال كانت الأم مخالفة للشروط؟ كما يطبق على الأولاد الذين ليسوا في المدارس، وحالياً المدارس لم تبدأ. نحن نطبق القانون، ولسنا الجهة التي أصدرت هذا الإجراء».
يُستنتج من هذا أن السلطات تقوم باستغلال انتهاء إقامة بعض الأولاد قبل بدء العام الدراسي من أجل ترحيل العائلة. يؤكّد الحوري أن ما يحصل هو «انتهاك للحق في تكوين عائلة، وحق الطفل في العيش مع أهله»، داعياً الحكومة إلى الامتثال لالتزاماتها الدولية والتراجع عن هذا الإجراء الذي يشكّل مصدر قلق شديد للعمال الذين يعانون من عدم أمان وظيفي ونظرة دونية لهم من قبل البعض.
No comments:
Post a Comment