طوني عيسى
مع التدفّق الإغراقي للاجئين السوريين إلى لبنان (يُحتمل بلوغهم 50 في المئة من السكان في نهاية 2015)، يصبح حيوياً التصدّي لملف اللجوء إلى بلد الأربعة ملايين والـ10452 كلم2، والمتأرجح سياسياً وديموغرافياً وأمنياً واقتصاديّاً على كفّ العفاريت الشرق أوسطيّة.
فقرابة المليونين من اللاجئين السوريين، حتى اليوم، باتوا قضية وجودية للكيان، خصوصاً إذا أضيفوا إلى اللاجئين الفلسطينيين الذين كان لوجودهم على أرض لبنان أثر جذري في حركة الأحداث على مدى نصف قرن مضى.
فاتّفاق القاهرة (1969)، أرسى نزاعاً بين المخيّمات الفلسطينية وقوى مسيحية لبنانية. وانفجر هذا النزاع عام 1975، ومعه أشعل الحرب الأهلية، قبل أن يتحوّل نزاعاً فلسطينيّاً - شيعيّاً في مراحل لاحقة.
اليوم، هدأت الجبهات بين الفلسطينيين والمسيحيين في لبنان. هدأ صوت الرصاص، وهدأت الانفعالات والأحقاد بين المخيّمات والمسيحيين. وجرى تطبيع بين الجانبين، اعترف خلاله الجانب الفلسطيني بالأخطاء والتجاوزات التي أساءت إلى البلد المضيف وأهله. أمّا المسيحيّون، فأظهروا مزيداً من الواقعية والتفهّم للحضور الفلسطيني في بلدهم، ولكنهم لم يتراجعوا عن ثوابتهم: السيادة خط أحمر.
هذا الملفّ ناقشته دراسة قيِّمة للباحث زياد الصائغ، تحت عنوان: «تصوُّر حلول عملانيّة لقضايا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان: وجهة نظر مسيحيّة»، وصدرت عن دار «سائر المشرق». وأهمية هذه الدراسة أنها الأولى من نوعها، وأنها تنقل الملف الفلسطيني - المسيحي من الجبهات والمتاريس، ومن السجالات والمناكفات السياسية، إلى الندوات وقاعات الحوار وصفحات الكتب.
يقول الصائغ: ينظر المسيحيون في لبنان إلى قضية اللاجئين الفلسطينيين على أنها قضية حق وعدل تتحمّل مسؤوليتها إسرائيل في الدرجة الأولى، والمجتمع الدولي بالدرجة الثانية، والعالم العربي بالدرجة الثالثة. وقد طرحت هذه القضية على اللبنانيين عموماً وعلى المسيحيين خصوصاً تحدّيات بنيويّة على الصيغة الميثاقيّة، وتحديداً بعدَ توقيع اتّفاق القاهرة عام 1969، من دون أن ينفي ذلك أنه ومنذ العام 1948 كان لمسيحيّي لبنان دور أساسي في مناصرة القضية الفلسطينيّة، بل حتى قبل ذلك.
فرجالات مسيحيون كبار كانوا الصوت الصارخ لدعم فلسطين ولاجئيها، مثل المفكرين: ميشال شيحا، وكمال الحاج، وشارل مالك، ورجال الدين: المطران جورج خضر، والأب العلامة ميشال الحايك، والأب العلامة يواكيم مبارك، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، ولا بُدّ حتماً من تذكّر ما توجّه به البطريرك الماروني اغناطيوس عريضة في 24 نيسان 1948 إلى اللبنانيين بخصوص نكبة فلسطين وأبنائها، فجاء في كلمته: «تعلمون ما حدَثَ لإخوانكم أبناء فلسطين العرب، وكيف اضطرهم الأمر إلى اللجوء إلى لبنان، فدفعت الحمية اللبنانيين جميعاً حكومة وشعباً إلى العمل على التخفيف من الويلات التي نزلت بهم. وقد صَدع فؤادنا بأخبار البؤس الذي يعانيه المصابون، وإننا نحضّكم على تأدية الواجبات التي تفرضها عليكم المسيحية والضيافة اللبنانية فيترتّب عليكم جميعاً أمام هذه الكارثة أن تفتحوا بيوتكم وأديرتكم لاستقبال المنكوبين من إخواننا سكان فلسطين والتخفيف من الآلام التي يقاسونها».
لكن هذا الكلام الأخوي لم يصمد كثيراً، ولو أنه أبقى في ضمير المسيحيين قناعة أخلاقية قاطعة بعدالة قضية اللاجئين الفلسطينيين. فالعلاقات اللبنانية - الفلسطينية شابَتها توتّرات والتباسات على رغم أنّ كلّ الوثائق التاريخية والوقائع، ومنها بعض جغرافيا المخيّمات التي قامت على أراضٍ لرهبانيات مسيحية وأوقاف كنسية، على رغم أن ذلك يؤكد أن ّالاهتمام الأساسي باللاجئين الفلسطينيين وقع على عاتق المواطنين اللبنانيين، كما على المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية، إلى أن برزت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
وتؤكد كافة الوثائق التاريخية أنه عاد من فلسطين إلى لبنان عام 1948، مئة ألف لبناني كانوا يقطنون فلسطين أو يعملون فيها. والعبء الديموغرافي والاستقرار الطري العود للبنان أسهما في تظهير سياقات تخويفية لبنانية - فلسطينية متبادلة (...) لكنّ المسيحيين في لبنان يتطلعون إلى قضية اللاجئين الفلسطينيين من خلال إشكاليات ثلاث يجب تحليلها في سياق أيّ ترتيب مُستقبلي لقضية هؤلاء، وهي الإشكالية الوطنية - الميثاقية، والإشكالية السيادية - الأمنية، والإشكالية الحقوق - إنسانية.
No comments:
Post a Comment