إذا كان لكل حقبة سياسية مفرداتها، فإن مفردات الحقبة الراهنة تدور في فلك القلق على المصير بالنسبة للمسيحيين، وصعود الأصولية لدى المسلمين، وبالتالي الخوف على المشرقية على الصعيدين السياسي والاجتماعي بالنسبة إلى قاطني البلاد العربية خصوصاً والشرق الأوسط عموماً.
وإذا كانت تلك المفردات ومفاهيمها تستدعي كل الحراك المشهود على الساحتين السياسية والإعلامية، من الحوارات إلى اللقاءات الشعبية، وصولاً إلى تأسيس الجمعيات والحركات المحافظة على المصير والمناهضة للأصولية، تكاد تنخفض إلى الصفر الخطوات العملية والحثيثة التي تتخذها الكنيسة أولاً، والمؤتمنون على المسيحيين ثانياً، لتحفيز المسيحيين على البقاء في لبنان أو في أي دولة عربية أخرى. حتى أن زيارة البابا بنيديكتوس السادس عشر الأخيرة إلى لبنان انطفأ وهجها ما إن انتفت المصلحة الإعلامية لمناقشتها. ولم تسقط بركته على المؤمنين الذين احتشدوا لملاقاته في وسط بيروت إلا صليباً يحملونه على درب جلجلة غير مرسومة نهايتها بعد.
هكذا أقفلت الأديرة المشيّدة على تلال لبنان غرفها العامة المخصصة للضيوف لتكون قبلة المسافرين من مكان إلى آخر من أبناء البيعة. وما عادت تملأ موائدها ظهر كل يوم من «معجنها» وخيرات الأراضي التي تحيط بها، لطارئين من المؤمنين. وإن انتفت الحاجة إلى الغرف والموائد، فإن حاجة أبناء البيعة ملحة لكنيسة راعية لأعمالهم ومساندة لهم، ولأبرشيات ضامنة لسكنهم إن قرروا الزواج وإنجاب الأولاد، ولمؤسسات تربوية واستشفائية رهبانية رحيمة... وإلا لِمَ ما زال المسيحيون يسألون ما البديل من الهجرة؟ ولا يلقون الجواب حتى حين يصرّون على «الاستثمار» في الشراكة التي دعاهم إليها رأس الكنيسة.
في النفق المظلم، بصيص أمل صغير انطلق من فكر الراهب المريمي الأب طوني خضرا، ليثمر بعد أربع سنوات من تأسيس «لابورا» في حزيران 2008، ستة آلاف فرصة عمل لمسيحيين. وقد قرّر المؤسس حصر عمل المؤسسة بالمسيحيين لأن أعدادهم إلى تراجع، كما أن توظيفهم في القطاع العام إلى تراجع منذ العام 1990، وأنه بالمحافظة على المسيحيين في لبنان تتم المحافظة على هوية لبنان بتنوعه. مع هذا يؤكد خضرا صفة «لابورا» المدنية، مشدّداً على أنها غير حزبية وغير دينية، وهدفها الحدّ من الهجرة وخلق فرص للعمل.
حتى اليوم نجحت «لابورا» في تأمين نحو 1300 وظيفة سنوياً بين خاصة وعامة. وهي تجهد لحجز مكان للمسيحيين في الوظائف الرسمية التي لا يضمن القانون المناصفة فيها، كما في وظائف الدرجتين الأولى والثانية. وعلى عكس الحديث الدائر حول إلغاء الطائفية السياسية، يرى خضرا أنه من المجدي طرح موضوع المناصفة في الوظائف العامة التي هي دون الدرجة الثانية على طاولة الحوار «لأنه من المهم جداً أن ينخرط المسيحي في العمل العام الذي ابتعد عنه لسنوات. وقد ساعد في ذلك ذهنية سائدة لديه تنتقص من أهمية وظائف الدولة». وبالتالي فإن أي مركز عام يشغر بتقاعد مسيحي لا يستعاض بمركز آخر، وهو ما يدلّ على أن الخطاب الرسمي حول المناصفة والتنوّع، خطاب فارغ المضمون وغير مُترجم إلى أرض الواقع، بحسب الأب المؤسس.
ويعتبر أن ما تقوم به «لابورا» لا يغني عن خطة مسيحية أو أي دراسة مسيحية تشير فعلاً إلى ماذا يريد المسيحيون من الدولة؟ لا سيما أن الأطراف السياسية والدينية المسيحية لا تدعم أي متقدم لوظيفة عامة إن كان من غير أنصارها.
وفي الأرقام تلقت «لابوار» خلال أربع سنوات نحو 20 ألف طلب للعمل، 12 ألفاً منها طلبات للتوظيف في القطاع العام، و8 آلاف في القطاع الخاص، أي ما يعادل 20 طلباً يومياً.
ويشرح خضرا أن للمؤسسة تشبيكاً مع 960 شركة خاصة، تعرض عليها الوظائف الشاغرة، وترشّح لها «لابورا» عدداً من المتقدمين لديها. وهي تتابع عبر الإعلانات الخاصة الشواغر الوظيفية في القطاع العام، فترسلها عبر البريد الإلكتروني إلى شبكة من المساندين لعملها سواء كانوا حزبيين (جميع الاحزاب والتيارات) أو طلاب جامعات أو أعضاء في أبرشيات ورهبانيات... وتقيم للمتقدمين إلى تلك الوظائف دورات تدريبية، للتعريف عن الوظيفة والمطلوب لخوص مباراتها، مثل نماذج الأسئلة. على أن ينتهي دور المؤسسة عند هذا الحدود «لأنها ترفض الوساطة وتحبذ وصول أصحاب الكفاءة» كما يقول خضرا.
ويصرّ رئيس «لابورا» على أنها مجانية ولا تبغي الربح، وأن الخدمات التي تقدمها لا تصبّ إلا في خانة العمل للحدّ من هجرة المسيحيين. وهو يفخر بأن ما يقوم به فريق عمله تعجز الحكومات المتعاقبة عن القيام به، لا سيما أن واحدة منها فقط ذكرت البطالة، منذ عهد الاستقلال، وحتى اليوم وهي حكومة الرئيس سامي الصلح حين ذكر في جملة واحدة أن حكومته ستعمل على الحدّ من البطالة. ويوضح خضرا بهذا الخصوص أن الأرقام الأخيرة تشير إلى ارتفاع نسبة البطالة في لبنان إلى 30.5 في المئة في العام 2011، وأنه من أصل 32 ألف متخرّج جامعي ومهني إلى سوق العمل سنوياً هناك 12 ألف متخرج لا عمل في لبنان ضمن اختصاصاتهم.
إلى مكافحتها للهجرة، بدأت «لابورا» خطة عمل للحدّ من النزوح من القرى والجبال ومدن الأطراف من خلال إنشاء مهنيات جديدة، وتوفير فرص عمل جديدة يستثمر من خلالها الأهالي أراضيهم.
No comments:
Post a Comment